صليب يسوع المسيح

التاريخ

١٣ مايو ٢٠٢٠

الموضوع

الوعظ

الكاتب

پول واشر

المصدر

مقتطف من كتاب "قوة الإنجيل ورسالته" لمؤلفه پول واشر.

"وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إلهي، إلهي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟"
مرقس 15: 34
"وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ."
لوقا 22: 41- 44
"فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ: «قَدْ أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ"
يوحنا 19: 30

نحن أمام أهم فصل في هذا الكتاب، أو أهم فصل في تاريخ البشرية حسبما اتفق غالبية المؤمنين. لا يُمكن تقسيم هذا الموضوع إلى أجزاء أصغر، حتى لو كان هذا ملائمًا للقارئ؛ فهذا هو جوهر الإنجيل، وإن كان يجب أن نجتهد لفهمه، فإنه يستحق الجهاد حقًا!
يُعد أحد أخطر أمراض الكرازة المعاصرة بالإنجيل أنها نادرًا ما تشرح صليب المسيح. لا يكفي أن نقول إنه مات، فالجميع يموتون، ولا يكفي أيضًا قول إنه مات مِيتةً كريمة، يموت الشهداء هكذا. يجب فهم أننا لن نُعلن بالكامل موت المسيح بقوة مخلِّصة ما لم نمحُ التشويش واللَّبس المحيط به، ونُفسِّر معناه الحقيقي للسامعين. فقد مات حاملًا آثام شعبه، وتكبَّد العقوبة الإلهية عن خطاياهم. وتُرك من الله، وسُحِق تحت الغضب الإلهي عِوضًا عَنَّا.

متروكٌ من الله

من أكثر النصوص المُربكة والمؤرِّقة في كلمة الله ما رواه مرقس عن السؤال العظيم الذي طرحه المسيح فيما كان معلقًا فوق الصليب الروماني. فقد صرخ بصوت عالٍ: "إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟" الذي تفسيره " إلهي، إلهي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟"
في ضوء ما نعرفه عن طبيعة اِبن الله المعصومة من الخطأ، وشركته الكاملة مع الآب، من الصعب فهم كلمات المسيح، لكنها تكشف عن معنى الصليب وسبب موته. ويُخبرنا تسجيل الكلمات باللغة العبرية الأصلية عن أهميتها الكبرى. لم يَرد الكاتب أن نُسيء فهم أي شيء!
لم يكن المسيح في هذه الكلمات يصرخ إلى الله فحسب، بل كان أيضًا باِعتباره المعلم الكامل يوجِّه من كانوا ينظرون إليه، وجميع القرَّاء في المستقبل إلى واحدةٍ من أهم النبوات المسيَّانية في العهد القديم الواردة في مزمور 22. وعلى رُغم أن المزمور بكامله يزخر بنبوات تفصيلية عن الصليب، فإننا سنركز فقط على الأعداد الستة الأولى:

" إلهي، إلهي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟ إلهي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي. وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إسرائيل. عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ. إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا. أمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِند الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ."
في أيام المسيح، لم تكن الأسفار العِبرية مُرتَّبة في أصحاحات وآيات مرقمة كما هي اليوم. ولذلك، كان المعلم اليهودي يسرد السطور الأولى من النص حين يرغب في توجيه سامعيه نحو مزمور أو جزء معين من كلمة الله. وفي هذه الصرخة التي انطلقت من فوق الصليب، وجَّه يسوع أنظارنا نحو مزمور 22، وكشف لنا شيئًا من سمات آلامه والغرض منها.

في العددين الأول والثاني من المزمور، نسمع شكوى المسيح، إذ يَعتبر نفسه متروكًا من الله. وقد استخدم مرقس الكلمة اليونانية (egkataleípo)، التي تعني "يتخلى عن، أو يترك، أو يهجر". أمَّا كاتب المزمور فاستخدم الكلمة العبرية (azab)، التي تعني "الترك أو الهجر." وفي كلتا الحالتين يبدو القصد واضحًا. كان المسيح نفسه يعلم أن الله قد تركه، وسدَّ أذنه عن سماع صراخه. لم يكن هذا تركًا رمزيًّا أو شِعريًّا، بل كان حقيقيًّا! وإن شعر شخصٌ ما يومًا بترك الله له، فهذا الشخص هو اِبن الله المعلَّق فوق صليب الجلجثة!

في العددين الرابع والخامس من هذا المزمور، تزداد حِدة الكرب والحزن الذي يعانيه المسيح عندما يتذكر أمانة الله من نحو عهده مع شعبه، فيقول: "عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ. إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا." ويبدو التناقض واضحًا، فلم يحدث مرة واحدة في تاريخ عهد الله مع الشعب أن صرخ رجل بار إلى الله ولم يُخلِّصه. ومع ذلك، نرى المسيح الذي بلا خطية معلقًا على خشبة متروكًا تمامًا. فما سبب اِنسحاب الله واِبتعاده عنه؟ لماذا حجب وجهه بعيدًا عن اِبنه الوحيد؟
يصيغ يسوع الإجابة عن هذه الأسئلة المزعجة في شكواه، ويُعلن بثبات في العدد الثالث بأن الله قدوس، ثم يُقر في العدد السادس بشيء يفوق الوصف: أنه صار دودة لا إنسان. لماذا ينطق المسيح بهذه اللغة المهينة والمُحقِّرة عن نفسِه؟ هل رأى نفسَه دودة لأنه صار "عَارٌ عِند الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ،" أم انتقص من قدر نفسِه لسبب أعظم وأبشع؟ على أية حال لم يصرخ قائلًا: "إلهي إلهي لماذا تركني الناس؟" بل بالحري، سعى لمعرفة سبب ترك الله له. ويُمكننا أن نجد الإجابة في حقيقة مُرة: فقد وضع الله آثامنا جميعًا عليه، وكدودة تُرك وسُحق بدلًا عَنَّا.
الحية والمُحرِقة (كبش الفداء)

لم يكن هذا التشبيه القاتم لموت المسيح كدودة الوحيد في كلمة الله، بل توجد تشبيهات أخرى تأخذنا إلى قلب الصليب بطريقة أعمق، وتكشف لنا بوضوح عَمَّا كان لا بد أن يُقاسيه المسيح لفداء شعبه. إن أُصِبنا بالقشعريرة من كلمات كاتب المزمور، فسوف نصاب بالذهول أكثر حين نقرأ أن اِبن الله شُبِّه أيضًا بالحية التي رُفِعت في البرية، وبتَيْسَيْنِ حاملين للخطية: الأول يُذبَح والآخر يُطلَق حُرًّا.
نجد الاِستعارة الأولى في سفر العدد. بسبب تمرُّد إسرائيل المستمر على الرب، ورفضهم لتدبيرات نعمته لهم، أرسل الله "حيات محرِقة" في وسط الشعب ومات الكثيرون. ولكن نتيجة لتوبة الشعب وشفاعة موسى عنهم، دبَّر الله مرة أخرى شيئًا لخلاصهم، وأمر موسى أن "يصنع حية مُحرِقة، ويضعها على سارية." ثم وعد بأن "كُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا."

لأول وهلة، قد يبدو مِنَّافيًا للمنطق أن "يُصنع العلاج على شِبه مسبِّب المرض." ولكن هذا يمدنا بصورة نابضة بالحياة عن الصليب. كان الإسرائيليون يموتون من سُم الحيات المُحرِقة، كما يموت البشر أيضًا من سُم خطاياهم. أمر الله موسى بأن يرفع سبب الموت عاليًا فوق سارية. وبالمثل وضع الله سبب موتنا على اِبنه فيما كان معلقًا فوق صليب. جاء الاِبن "فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ،" وصار خطيةً لأجلنا. وكل يهودي صدَّق الله، ونظر نحو الحية النُّحاسية كان يحيا. ومن يُصدِّق شهادة الله عن اِبنه، وينظر إليه بإيمان، سيَخلُص. كما هو مكتوب: "اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ، لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرَ."

يحتوي سفر اللاويين على الاِستعارة الثانية. طالب الله الشعب بتقديم ذبيحة تتضمن تَيْسَين؛ لأنه كان من المستحيل لتقدمة أو ذبيحة واحدة أن تمثل أو تفسر بالكامل موت المسيح الكفاري. كان التيس الأول يُذبَح كذبيحة خطية أمام الرب، ويُرش دمُه فوق غطاء التابوت (كرسي الرحمة)، وأمامه خلف الحجاب في قدس الأقداس. وكان هذا رمزًا للمسيح الذي سُفِك دمُه على الصليب ليُكفِّر عن خطايا شعبه. وتُعد هذه صورة توضيحية رائعة عن موت المسيح ككفارة. فقد سفك المسيح دمَه كي يُرضي عدل الله، ويرفع غضبه، ويجلب السلام. ثم كان رئيس الكهنة يُقدَّم التَّيْس الثاني أمام الرب باِعتباره تيس الكفارة، وكان عليه أن يضع "يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِ التَّيْسِ الْحَيِّ وَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِكُلِّ ذُنُوبِ بَنِي إسرائيل، وَكُلِّ سَيِّئَاتِهِمْ مَعَ كُلِّ خَطَايَاهُمْ،" ثم يُرسل تيس الكفارة هذا إلى البرية حاملًا فوقه كل ذنوب الشعب إلى أرض مفقرة، وهناك كان يهيم وحده، متروكًا من الله، ومقطوعًا عن شعب الله. وكان تيس الكفارة هذا أيضًا رمزًا للمسيح، الذي "حمل خطايانا في جسده على الخشبة" وتألم ومات وحده "خارج المحلة." تُعد هذه صورة رائعة لموت المسيح الكفاري، فقد أبعد عَنَّا خطايانا، كما قال كاتب المزمور: " كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا."

المسيح جُعِلَ خطية

كيف لا نعتقد أنه أمرٌ مريع أن يُرمَز للمسيح بالدودة، والحيَّة السامة، والتَّيس؟ إن تشبيهنا لاِبن الله بمثل هذه التشبيهات الكريهة قد يُعد تجديفًا ما لم تكن هذه التشبيهات قد جاءت من نصوص العهد القديم نفسِها، وما لم يُؤكِّدها أيضًا كُتَّاب العهد الجديد الذين تمادوا في تصويرهم القاتم لموته الكفاري. فقد أخبرونا وهم مسوقون من الروح القدس بأن المسيح الذي لم يعرف خطيةً قد "صار خطية،" وأن الاِبن المحبوب للآب صار "لعنةً" أمامه.

سمعنا جميعًا هذه الحقائق من قبل، لكن هل انتبهنا إليها بما يكفى لكي نفهمها حقًّا وننكسر أمامها؟ من قالت عنه جوقة السيرافيم: "قدوس، قدوس، قدوس" "صار" أو جُعِل خطية على الصليب. تبدو الرحلة إلى داخل معنى هذه العبارة محفوفة بالمخاطر. ذلك لأننا نتراجع من الخطوة الأولى. ما الذي يَعنيه أن يصير الشخص الذي فيه "يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا" خطية؟ يجب ألَّا نسعى إلى تحريف هذه الحقيقة إنقاذًا لسمعة اِبن الله، ولكن علينا أن ننتبه لئلا نتفوه بأشياء بشعة ضد عِصمته من الخطية، وصفاته التي لا يعتريها تغيير. كيف جُعِل خطية؟ نستنتج من كلمة الله أن المسيح صار خطية بالطريقة نفسِها التي يصير المؤمن بها "بر الله" فيه. كتب الرسول بولس في رسالته الثانية لكنيسة كورنثوس: "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ."

في هذه الحياة الحاضرة، يصير المؤمن "بر الله"، ليس بسبب تنقية ما حدثت في شخصيته، وصار بها كائنًا بارًّا تمامًا أو بلا خطية، بل بالحري نتيجة أن الله قد حسبه بارًّا بفضل عمل المسيح نيابةً عنه. وعلى المنوال نفسِه، جُعِلَ المسيحُ خطية، ليس بسبب اِنحدار أخلاقي في شخصيته جعله فاسدًا أو غيرَ بار، بل نتيجة جعله مذنبًا أمام كرسي دينونة الله عِوضًا عَنَّا. لم يَصِر المسيح على الصليب خاطئًا، بل احتُسِبت خطايانا عليه، فاعتبره اللهُ مذنبًا بجرائمنا، وعامَلَه بحسب الحكم الذي كنا نستحقه نحن. وبالتالي، لم يَصِر المسيح خطيةً باِشتراكه في فسادنا، بل بحمله ذنبنا. وعلينا ألَّا ننسى أنه حتى حين حمل خطايانا، ظلَّ هو حمَلُ الله الذي بلا عيب ولا دنس، وكانت ذبيحتُه رائحةً طيبة لأبيه.

يجب أن نحرص على فهم أن هذه الحقيقة لا تُقلِّل من بشاعة كون المسيح صار خطيةً بدلًا مِنَّا. على الرغم من أنه كان ذنبًا محسوبًا عليه، فإنه كان ذنبًا حقيقيًّا، تسبب في كرب وحزن لنفسِه يفوقان الوصف. فقد أخذ بالفعل مكاننا، وحَمَلَ خطايانا وذنوبنا، واختبر الكيل الطافح من غضب الله الذي استحقَّته خطايانا.
تكشف المقابلة الكبرى بين ما كان المسيح عليه في الحقيقة وما "صار" عليه، عن المزيد من الضيق والكرب الذي اختبره المسيح. يا له من أمر مروِّع أن يقف الخاطئ وجهًا لوجه أمام خطاياه، وأن يشعر بثقل ذنبه، لكن أن يحمل "الذي لم يعرف خطية" رجسًا غريبًا عنه تمامًا، ويشعر بذنب جموع غفيرة من الخطاة لا حصر لها، فهذا أمر مختلف تمامًا. ويا له من رعب يفوق الوصف أن يُعامَلَ الخاطئ كمذنب أمام كرسي دينونة الله، لكن أن يُعامَل "القدوس، الذي هو بلا دنس، الذي انفصل عن الخطاة" بهذه الطريقة، فهذا أمر مختلف تمامًا. وأن يُدان الخاطئ من إلهٍ لا تربطه به أية عَلاقة، ولا يكن له أيَّ مشاعر هذا شيء، وأن يُحاكَم اِبن الله المحبوب، ويُدان من أبيه، الذي كانت له معه في الأزل أعظم شركة حميمة، والذي يَكِن له محبة تفوق الوصف والقياس، فهذا شيء مختلف تمامًا.

المسيح صار لعنة

تُعد إحدى الحقائق المريعة وغير المفهومة أيضًا أن يصير المسيح خطية. ولكن، عندما نعتقد أنه لا يُمكن أن تنطق كلمات أكثر قتامة من هذه عنه، يأتي الرسول بولس ويُضيء سراجًا ويأخذنا لأبعد من هذا إلى داخل هُوة المسيح الذي تعرض للذل والترك. وعندما ندخل إلى أعمق كهف فيها، نجد اِبن الله معلقًا على الصليب، وحاملًا لقبه الأكثر خزيًا وعارًا: "ملعونٌ من الله!"

يُعلن الكتاب المقدس بأن كل الجنس البشري تحت لعنة الله لكسره مبادئ الناموس الإلهي، وكما كتب الرسول بولس إلى كنيسة غلاطية: "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ." وتأتي كلمة "ملعون" من الكلمة اليونانية (katára)، التي تُشير إلى "إنزال لعنة". وتُشير هذه الكلمة في العهد الجديد إلى الوجود في حالة رفض أو نقمة إلهية تؤدِّي إلى الحكم والدينونة. وبما أن اللعنة الإلهية هي مضاد البركة الإلهية، يُمكننا بالتالي، باستخدام التطويبات كمعيار، أن نتعلم شيئًا عَمَّا يُعنيه أن يُصبح أحد تحت لعنة الله.

المبارَكون (المُطوَّبون) لهم ملكوت السماوات، أمَّا الملعونون فيُحرَمون من دخولها.
المبارَكون لهم التعزية الإلهية، أمَّا الملعونون فموضوع الغضب الإلهي.
المبارَكون يرثون الأرض، أمَّا الملعونون فيُقطَعون منها.
المبارَكون يُشبَعون، أمَّا الملعونون فبائسون وأشقياء.
المبارَكون يُرحَمون، أمَّا الملعونون فيدانون دون شفقة.
المبارَكون يعاينون الله، أمَّا الملعونون فيُطرَدون من محضره.
المبارَكون أبناء الله وبناته، أمَّا الملعونون فيتبرأ منهم، بلا كرامة.
لذلك، مَن يكسرون ناموس الله، بحسب منظور السماء، فاسدون ومستحقون لكل اِزدراء. إنهم جماعة بائسة، معرَّضة عن اِستحقاق للنَّقمة الإلهية، ومخصصة بعدل للهلاك الأبدي. ولا نُبالغ إن قلنا إن آخر ما يجب أن يسمعه الخاطئ الملعون، بل وسيسمعه بالفعل حين يخطو خُطواته الأولى داخل الجحيم هو صوت تصفيق كل الخليقة لله؛ لأنه خلَّص الأرضَ منه. هذا الشر لمن يكسرون ناموس الله، وهذا الاِزدراء للقدوس نحو النَّجِس.

تُعد مثل هذه اللغة إهانة كبرى للعالم، ولأغلبية المجتمعات الإنجيلية المعاصرة. ومع ذلك، فهي لغة كتابية ولابد أن نقولها. إن رفضنا شرح وتفسير كل أقوال كلمة الله القاتمة بدافع الكياسة، لن ينظر البشر لله فيما بعد على أنه قدوس، ولن يُدركوا الورطة المخيفة التي وقعوا فيها، ولن يحسبوا الثمن الذي دفعه المسيح، أو يُقدَّروا قيمته. ما لم نُدرك جيدًا ما الذي يَعنيه أن يكون الإنسان تحت اللعنة الإلهية، لن نفهم أبدًا ما الذي كان يَعنيه هذا بالنسبة للمسيح أن "يصير لعنة لأجلنا". ولن نفهم بالكامل أبدًا رعب وجمال ما فعله لأجلنا على تلك الخشبة! "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا؛ لأنه مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ.»"
إن الحق الذي نُقل إلينا من غلاطية 3: 10 جعل يسوع المسيح وإنجيله عارًا ليهود القرن الأول. فقد كانوا جميعًا على دراية بالحق المرعب الموجود في كلمة الله أن "الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ." كيف يُمكن إذًا للمسيح أن يكون مخلِّص إسرائيل وملكهم ومع هذا يموت بهذه الصورة المنحطة والمشبوهة؟ إن قبول مثل هذه الفكرة أكثر من مجرد فضيحة، بل تجديف صريح ومباشر! ولكن اليهود فشلوا في رؤية أنها كانت "لعنة متبادلة،" وأن المسيح كان لا بد أن يصير على الصورة التي كانوا عليها قبلًا؛ حتى يفديهم مما استحقوه. فقد صار دودةً لا إنسان، وصار الحية التي رُفِعت في البرية، وكبش الفداء الذي أُطلق خارج المحلَّة، حامل الخطايا ولعنة الله. وقد فعل هذا كله عِوضًا عن شعبه!

في تثنية 27، 28، قسَّم الله أمة إسرائيل إلى قسمين منفصلين، واضعًا القسم الأول فوق جبل جرزيم، والقسم الآخر فوق جبل عيبال. وكان على الواقفين على جبل جرزيم أن ينطِقوا بالبركات التي ستأتي على من يحرصون على طاعة الرب إلههم، أمَّا الواقفون على جبل عيبال فكان عليهم أن ينطِقوا باللعنات التي تحل على من يرفضون هذه الطاعة. ومع أن المسيح كان له كل الحق في نوال بركات جرزيم، لكن أباه أرعد ضده من فوق جبل عيبال بينما كان معلقًا على خشبة الجلجثة. ومن خلف أبواب السماء المغلقة، سحق الآبُ اِبنَه الوحيد بكل رعبٍ كان يجب أن يقع على أولئك الذين مات من أجلهم. وحين رفع عينيه إلى فوق نحو السماء ملتمسًا ملامح وجه الله، حوَّل أبوه وجهه عنه. وحين صرخ: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" أجابه أبوه باِعتباره قاضيًّا: "ملعون أنت من الرب إلهك." حمل المسيح لعنات تثنية 28 عن شعبه.
" يُرْسِلُ الرَّبُّ عَلَيْكَ اللَّعْنَ وَالاضْطِرَابَ وَالزَّجْرَ ...حَتَّى تَهْلِكَ وَتَفْنَى سَرِيعًا."
يَضْرِبُكَ الرَّبُّ بِجُنُونٍ وَعَمًى وَحَيْرَةِ قَلْبٍ، فَتَتَلَمَّسُ فِي الظُّهْرِ كَمَا يَتَلَمَّسُ الأَعْمَى فِي الظَّلاَمِ ... وَلَيْسَ مُخَلِّصٌ."
"يَفْرَحُ الرَّبُّ لَكُمْ لِيُفْنِيَكُمْ وَيُهْلِكَكُمْ."
"مَلْعُونًا تَكُونُ فِي الْمَدِينَةِ وَمَلْعُونًا تَكُونُ فِي الْحَقْلِ."
"مَلْعُونًا تَكُونُ فِي دُخُولِكَ، وَمَلْعُونًا تَكُونُ فِي خُرُوجِكَ."
"وَتَكُونُ سَمَاؤُكَ الَّتِي فَوْقَ رَأْسِكَ نُحَاسًا، وَالأَرْضُ الَّتِي تَحْتَكَ حَدِيدًا."
"وَتَكُونُ دَهَشًا وَمَثَلاً وَهُزْأَةً فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ يَسُوقُكَ الرَّبُّ إِلَيْهِمْ."
وَتَأْتِي عَلَيْكَ جَمِيعُ هذِهِ اللَّعَنَاتِ وَتَتَّبِعُكَ وَتُدْرِكُكَ حَتَّى تَهْلِكَ، لأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ لِصَوْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ لِتَحْفَظَ وَصَايَاهُ وَفَرَائِضَهُ الَّتِي أَوْصَاكَ بِهَا."
بينما كان المسيحُ يحمل خطايانا على الجلجثة، حلَّت عليه اللعنة كمن يَصْنَعُ تِمْثَالاً وَيَضَعُهُ فِي الْخَفَاءِ، وكمن يَسْتَخِفُّ بِأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ، أو يَنْقُلُ تُخْمَ صَاحِبِهِ، أو كمن يُضِلُّ الأَعْمَى عَنِ الطَّرِيقِ، أو يُعَوِّجُ حَقَّ الْغَرِيبِ وَالْيَتِيمِ وَالأَرْمَلَةِ، وكمن يرتكب كل أشكال الفجور والِانحراف الجنسي، أو يَقْتُلُ قَرِيبَهُ فِي الْخَفَاءِ، أو يَأْخُذُ رَشْوَةً لِكَيْ يَقْتُلَ نَفْسَ دَمٍ بَرِيءٍ. لُعِنَ كمن لاَ يُقِيمُ كَلِمَاتِ هذَا النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهَا. كَتَبَ الحكيم في سفر الأمثال: "كَالْعُصْفُورِ لِلْفَرَارِ وَكَالسُّنُونَةِ لِلطَّيَرَانِ، كَذلِكَ لَعْنَةٌ بِلاَ سَبَبٍ لاَ تَأْتِي." ولكن الغصنَ قد لُعِن، ليس لخللٍ ما في شخصيته أو خطأ ما في أفعاله؛ بل لأنه حمل خطايا شعبه وآثامهم أمام منصة القضاء الإلهية. وهناك، وقَفَ دون ساتر، ودون حماية، مُعرَّضًا لكل عواقب الدينونة الإلهية. صرخ داود: "طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ." ومع ذلك، فوق الصليب، فُضِحت الخطية التي حُسِبت على المسيح أمام الله وجند السماوات. وعُلِّق المسيحُ علنًا أمام البشر، في مشهد غير معتاد للملائكة والشياطين على حدٍّ سواء. لم تُغفَر له الآثام، ولم تُستَر الخطايا التي حملها. فإن حُسِب أحدهم مطوَّبًا لأن آثامه لم تُحسَب عليه، فالمسيح إذًا قد صار ملعونًا فوق كل المقاييس؛ لأن إثمنا قد وُضِع عليه. ولهذا تعامَل الله معه باِعتباره ذلك المعتدي على العهد، الذي ورد الحديث عنه عِند تجديد العهد الموسوي في موآب:

"لاَ يَشَاءُ الرَّبُّ أَنْ يَرْفَقَ بِهِ، بَلْ يُدَخِّنُ حِينَئِذٍ غَضَبُ الرَّبِّ وَغَيْرَتُهُ عَلَى ذلِكَ الرَّجُلِ، فَتَحِلُّ عَلَيْهِ كُلُّ اللَّعَنَاتِ الْمَكْتُوبَةِ فِي هذَا الْكِتَابِ، وَيَمْحُو الرَّبُّ اسْمَهُ مِنْ تَحْتِ السَمَاءِ. وَيُفْرِزُهُ الرَّبُّ لِلشَّرِّ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إسرائيل حَسَبَ جَمِيعِ لَعَنَاتِ الْعَهْدِ الْمَكْتُوبَةِ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ هذَا."

في الجلجثة، أُفرِز المسيَّا للشر، وحلَّت عليه كل لعنة مكتوبة في الناموس. وفي نسل إبراهيم هذا، تباركت جميع قبائل الأرض؛ لأن اللعنة التي حلَّت عليه أكثر من أي إنسان آخر عاش يومًا على الأرض. يحتوي سفر العدد على وعدٍ من أجمل وعود البركة التي قطعها الله للإنسان على الإطلاق. ويُشار إليه بالبركة الكهنوتية، أو بركة هارون: "يُبَارِكُكَ الرَّبُّ وَيَحْرُسُكَ. يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ وَيَرْحَمُكَ. يَرْفَعُ الرَّبُّ وَجْهَهُ عَلَيْكَ وَيَمْنَحُكَ سَلاَمًا." ومع أن هذه البركة مليئة بالنعمة وجميلة، فإنها تمثل مشكلة لاهوتية وأخلاقية عويصة. كيف يُمكن لإله بار أن يمنح مثل هذه البركة لشعب خاطئ دون أن يتنازل عن برَّه؟ مرة أخرى نجد الإجابة في الصليب. لا يُمكن أن ينال الخاطئ البركة سوى لأن اللعنة حلَّت على القدوس البار. وكل بركة وأي بركة أُعطِيت أو ستُعطى من الله لشعبه على الإطلاق هي بسبب أن المسيح فوق الخشبة نال النقيض تمامًا من هذه البركة الكهنوتية. لم يقل لنا: "يباركك الرب،" سوى لأنه قيل له: "ملعون أنت من الرب، ليسلمك إلى الهلاك، وينزع نور حضوره عنك، ويدينك، ليحوِّل الربُّ وجهَه عنك ويملأك بؤسًا."

يصف كاتب المزمور المبارَكين على أنهم مَن يكونون فرحين بابْتِهَاج في محضر الله، ويَعرفون صوت الْهُتَافَ ويسلكون بِنُورِ وَجْهِ الله. فلأجلنا جُعل المسيح حزينًا حيث غاب حضور الله الآب عنه، وعَرف صوت بوق الدينونة المرعب، وتعلق في ظلمة وجه الله العابس وغير المحتمَل. وبسبب اِختيار آدم المصيري، استُعبِدت الخليقةُ بكاملها للفساد والبُطْل، فيما صارت تئن تحت اللعنة. ولكي يُحرر آدم الأخير الخليقة، أخذ على عاتقه حَمْل خطايا شعبه، وأنَّ تحت ذلك النير الرهيب: "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا."

تُعد أكبر محاكاة ساخرة هي أن المعنى الحقيقي "لصرخة المسيح من فوق الصليب" قد فُقِدت في صيغ رومانسية مبتذلة. وبات شائعًا أن تسمع كارزًا يُعلن أن الآب قد حوَّل وجهه عن اِبنه؛ لأنه لم يُعد قادرًا على تحمُّل مشاهدة الألم الذي أوقعته عليه أيادي الأشرار. وكما تعلَّمنا، فإن مثل هذه التفسيرات تُعد تحريفًا تامًّا للنص، ولِما قد حدث بالفعل فوق الصليب. لم يحجب الآبُ وجهه عن اِبنه لأنه افتقر إلى الشجاعة لمشاهدة آلامه، بل "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ." فقد وضع عليه آثامنا، ثم أشاح بوجهه عنه؛ لأن عينيه أطهر من أن توافقا على الشر، ولا يُمكنه النظر إلى الجور في اِستحسان."
تُصوِّر معظم النبذ التبشيرية وجود هُوة أو اِنفصال غير محدود بين إله قدوس وإنسان خاطئ لسبب وجيه. وتتفق كلمة الله مع هذه الصورة تمامًا، كما صرخ النبي إشعياء قائلًا: "هَا إِنَّ يَدَ الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ، وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ." ووفقًا لهذا النص، ونصوص أخرى لا حصرَ لها، كان ينبغي على كل البشر أن يعيشوا ويموتوا منفصلين عن محضر الله الحُلو، واقعين تحت الغضب الإلهي. ولهذا السبب، أخذ اِبن الله مكاننا، وحمل خطايانا، و"تُرِك مِن الله". ولكي تُسَد هذه الهُوة، وتعود الشَّركة "كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟"

المسيح يُقاسي غضب الله

لكي يحقق المسيح الخلاص لشعبه، تحمَّلَ ترْكَ الله الرهيب، وشَرِب كأس غضب الله المُرة لآخرها، ومات مِيتةً دامية عِوضًا عن شعبه. ولم يتحقق العدل الإلهي، ويُرفع غضب الله، ولم تصر المصالحة ممكنة سوى عندما حدث كل ذلك.

صَلَّى المسيح في البستان ثلاث مرات؛ كي تُجاز عنه الكأس، لكن في كل مرة كانت إرادتُه تخضع لإرادة أبيه. يجب أن نسأل أنفسَنا هنا، ما الذي كان في الكأس جعله يُصلِّي بهذه اللجاجة؟ ما الشيء الرهيب الذي بداخل الكأس وتسبب له في هذا الكرب الشديد حتى امتزج عرقُه بالدم؟
كثيرًا ما يُقال إن الكأس كانت تمثل الصليب الروماني القاسي، والعذاب الجسدي الذي كان ينتظره، وأن المسيح رأى مسبقًا السَّوط ينزل على ظهرِه، وتاج الشوك يثقب جبهته، والمسامير تخترق يديه ورجليه. لكن مَن يعتقدون أن هذه الأشياء كانت مصدر كربه لا يفهمون الصليب، ولا يُدركون ما حدث هناك. وعلى الرغم من أن العذابات التي تكدست فوقه على أيدي البشر كانت كلها جزءًا من خُطة الله الفدائية، فإن شيئًا منذرًا بالسوء أكثر بكثير هو الذي أثار صرخته طلبًا للخلاص من الكأس.
في القرون الأولى من زمن الكنيسة، مات الآلاف من المسيحيين مصلوبين. وقيل إن نيرون كان يصلبهم رأسًا على عقب، وكان يغطيهم بالقار مشعلًا النيران فيهم، لاِستخدامهم في إنارة شوارع مدينة روما. ومنذ ذلك الحين، وعلى مر العصور، قاسَى جمهورٌ لا حصرَ له من المسيحيين عذابات تفوق الوصف، ومع ذلك يشهد الصديق والعدو على حدٍّ سواء أن العديد منهم توجهوا نحو موتهم بجسارة شديدة. أنصدق إذًا أن تلاميذ المسيح قابلوا مثل هذا الموت الجسدي القاسي بفرح لا يُنطَق به، بينما انكمش رئيس خلاصهم خوفًا في بستان، مرتعبًا من نوع العذاب عينه؟! هل رهب مسيحُ الله السياط والأشواك والصليب والحربة، أم كانت الكأس تمثل رعبًا يفوق أبشع قساوة ارتكبها البشر؟

لكي نفهم ذلك المحتوى المشؤوم للكأس، لا بد أن نرجع إلى المكتوب، وأن نضع في اِعتبارنا نَصَّين على وجه الخصوص، الأول من سفر المزامير، والثاني من أسفار الأنبياء. يقول النَّص الأول: "لأَنَّ فِي يَدِ الرَّبِّ كَأْسًا وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنةٌ شَرَابًا مَمْزُوجًا. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ، يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ الأَرْضِ." ويقول النَّص الثاني: "لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ لِيَ الرَّبُّ إِلهُ إسرائيل: «خُذْ كَأْسَ خَمْرِ هذَا السَّخَطِ مِنْ يَدِي، وَاسْقِ جَمِيعَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ أُرْسِلُكَ أَنَا إِلَيْهِمْ إِيَّاهَا. فَيَشْرَبُوا وَيَتَرَنَّحُوا وَيَتَجَنَّنُوا مِنْ أَجْلِ السَّيْفِ الَّذِي أُرْسِلُهُ أَنَا بَيْنَهُمْ."

نتيجة لتمرُّد الأشرار المستمر، قضى عدل الله بالدينونة عليهم، وسيَسكب بعدلٍ سخطه على الأمم، ويضع كأسَ خمرِ سخطه في أفواههم، ويجبرهم على تجرُّعها حتى آخر قطرة. إن مجرد التفكير في مثل هذا المصير الذي ينتظر العالم مرعب تمامًا، ومع ذلك، كان هذا مصير الجميع لولا أن سعت رحمة الله لخلاص شعبٍ، ووضعت حكمة الله خُطة الفداء من قبل تأسيس العالم. فقد كان على اِبن الله أن يصير إنسانًا، ويسلك في الأرض بطاعة تامة لناموس الله، ويُشابهنا في كل شيء، مجرَّبًا في كل شيء مثلنا، لكن بلا خطية، ويعيش حياة بارة تمامًا لمجد الله ولخير شعبه. ثم كان عليه أن يُصلَب في الوقت المعين بأيدي الأشرار، ويَحمل فوق الصليب ذنوب شعبه، ويُقاسي غضب الله عليهم. وكان على اِبن آدم الحقيقي، الذي كان أيضًا اِبن الله بحق، أن يأخذ كأس غضب الله المُرة من يده، ويتجرَّعها لآخر قطرة، حتى يكون "قد أُكمل"، وحينئذ يُرضي عدل الله بالكامل. كان ينبغي أن يُسكب الغضب الإلهي الذي من نصيبنا على الاِبن، ومن خلال الاِبن تخمد نيران هذا الغضب.

تخيل معي سَدًّا هائلًا، ممتلئًا حتى حافته، ومنهَكًا من الثقل الذي خلَّفه. وفجأة، يتحطم هذا الحائط الحامي، ويُطلَق العنان لقوة الطوفان المدمرة والرهيبة. وفيما يركض هذا الدمار نحو قرية صغيرة في الوادي المجاور، تنفتح الأرض فجأة أمامه، وتَبتلع حتى آخر قطرة كلَّ ما كان من المفترَض أن يمحو هذه القرية. وهكذا أيضًا كانت دينونة الله تركض في عدل نحو كل إنسان، ولم يكن مهربٌ، سواء إلى أعلى تل، أو إلى أعمق هُوة، ولم يكن في إمكان أسرع قدمين لإنسان أن تنجو منه، ولم يكن في إمكان أقوى وأمهر سبَّاح أن يتحمل سيولها الجارفة. وهكذا أيضًا تحطم السد، ولم يستطع شيء إصلاح الخراب الذي حلَّ به. ولكن حين استُنزِفت كل آمال البشر، تدخَّل اِبن الله بنفسِه في الوقت المعيَّن، بين العدل الإلهي وشعبه، فشرب لآخر قطرة هذا الغضب الذي أشعلناه بأنفسِنا، والعقوبة التي استحققناها. وعندما مات، لم تبقَ قطرة واحدة من الفيضان السابق. فقد شربه بالكامل نيابةً عَنَّا!

تخيل معي أيضًا حجري رحى عملاقين، الواحد يدور فوق الآخر، ثم وُضِعت حبة قمح بينهما، وحوصرت تحت هذا الوزن العظيم. أولًا، ستسحق هذه الأحجار قشرة هذه الحبة حتى يصير التعرُّف عليها صعبًا، ثم تظهر أجزاؤها الداخلية، وتُطحن تمامًا. وبذلك لم يُعد رجاء في عودتها إلى وضعها الأول، فكل شيء قد ضاع، وأصبح غير قابل للإصلاح أو الاِسترجاع. وهكذا أيضًا سُرَّ الله بأن يسحق اِبنه الوحيد، ويجعله يختبر حزنًا يفوق الوصف. كما أيضًا سُرَّ الاِبن أن يستسلم لهذا الألم؛ كي يتمجد الله، ويُفتدى شعبه.

يجب ألَّا نعتقد أن الله وجد لذة مبهجة في آلام اِبنه الحبيب، لكن بموت الاِبن تحققت مشيئة الله. لم يكن لأي وسيلة أخرى القوة لرفع الخطية، وإرضاء العدل الإلهي، وتسكين غضب الله علينا. وما لم تكن حبة الحنطة الإلهية قد وقعت في الأرض وماتت، كانت ستبقى وحدها دون شعب أو دون عروس. لم تكن اللذة في الألم، بل في كل ما كان هذا الألم سيحققه، أي أن يُعلن الله في مجد لم يعرفه بشر ولا ملائكة قط، وأن يُؤتَى بشعب في شركة مع إلههم لا يعوقها شيء.
كَتَبَ الكاتب البيوريتاني المحبوب جون فلافيل (John Flavel) ذات مرة حوارًا بين الآب والابن فيما يتعلق بالبشرية الساقطة، وبالثمن الكبير الذي كان مطلوبًا لنوال الفداء. يُصوِّر هذا الحوار بطريقة جميلة حِدة الكربِ في الصليب، ومحُبَّة الآب والاِبن التي دفعتهما لقبول ذلك. كتب فلافيل:

"قد تفترض أن الآب عندما أجرى صفقته مع المسيح لأجلك، يقول ما يلي:
الآب: يا اِبني، ها هي جماعة من النفوس المسكينة والبائسة، التي دَمَّرت وأذت نفسَها تمامًا، والآن هم عُرضة لأطَبِّق عدلي عليهم! فالعدل يطالب بأن يتم إرضاؤه عنهم، أو سيتحقق بهلاكهم الأبدي. ماذا نفعل لأجل هذه النفوس؟
وهكذا أجاب المسيح:
الابن: آه يا أبي، هكذا هي محبتي لهم، وإشفاقي عليهم حتى إني أتحمل المسؤولية كضامن لهم لئلا يهلكوا إلى الأبد، أعطني كل صكوك المديونية؛ حتى أرى ما يدينون لك به. أيها الرب احسبها كلها عليَّ؛ حتى لا يتبقى عليهم أي صكوك أخرى، من يدي تطلبها. فأنا أختار أن أقاسي الغضب عن أن يقاسوه هم. عليَّ هذا، يا أبي، احسب عليَّ كل ديونهم.

الآب: لكن يا ابني، إن أخذتَ على عاتقك هذه المسؤولية عنهم، فسيكون عليك أن تسدد الدين حتى الفِلس الأخير، ولا تتوقع أي إسقاط من المديونية. فإن أبقيتُ على حياتهم، لن أُبقي على حياتك أنت، ولن تنجو من يدي.
الابن: بسرور ليكن هذا يا أبي، احسب الكل عليَّ، فأنا قادر على السداد، ومع أن هذا يُشكِّل نوعًا من الأذى لي، وعلى الرغم من أن هذا يسلبني كل غِناي، ويُجرِّدني من كل كنوزي، ولكني مع هذا راضٍ أن أتحمل المسؤولية!"
يعتقد الناس أحيانًا، بل ويعظون بأن الآب نظر من فوق، من السماء، وعاين الألم الذي تكدَّس على اِبنه بأيدي البشر، وحينها حَسِب هذه المحنة تسديدًا لثمن خطايانا. وهذه أسوأ أنواع الهرطقات. إن المسيح قد أرضى العدل الإلهي ليس فقط بما تحمله من آلام البشر، بل بما تحمله من غضب الله. فالأمر يتطلب أكثر من مجرد صليب، ومسامير، وتاج شوك، وحربة لتسديد ثمن الخطية. لا يَخلُص المؤمن ببساطة بسبب ما فعله البشر بالمسيح على الصليب، بل بسبب ما فعله الله به. فقد سحقه الله تحت ثقل قوة غضبه الرهيب علينا. لكن نادرًا ما تَعرض كرازتنا بالإنجيل هذه الحقيقة بوضوح كافٍ.
الله سُيدبِّر (الله يرى)

في واحدةٍ من أكثر قصص البطولة الملحمية في العهد القديم، أمر الله أبانا ابراهيم بأن يحمل اِبنه إسحق إلى جبل المُريا، ويُقدِّمه هناك ذبيحة: "فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ»"
يا لثقل هذا الحِمل الذي حمله إبراهيم! لا يُمكننا حتى تخيُّل الأسى والحزن الذي ملأ قلب هذا الشيخ، وأذاقه العذاب في كل خُطوة من رحلته. وقد حرصَت كلمة الله على إخبارنا بأنه قد تلقى أمرًا بأن يُقدَّم "ابنه وحيده الذي يُحبه، إسحق." ويبدو أن المقصود من تحديد اللغة هو لفت اِنتباهنا، وجعلنا نفكر في وجود معنى أبعد مُخبَّأ في هذه الكلمات لا تُخبرنا به نظرتنا الأولى لها. إن هذا الرجل وهذا الصبي هما ببساطة رمز، أو ظِل، لأب أعظم وابن أعظم وذبيحة أعظم!
في اليوم الثالث، وصل الاِثنان إلى الموضع المعيَّن، فربط الأبُ اِبنه الحبيب بيديه. وأخيرًا، وفي خضوع لما يجب أن يحدث، وضع يده على جبين اِبنه و"وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ." وفي اللحظة ذاتها، تدخلت رحمة الله، وأوقفت يد الشيخ، ثم ناداه الله من السماء "وَقَالَ: «إِبْرَاهِيمُ! إِبْرَاهِيمُ!... لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي»"

عند سماعه لصوت الرب، "رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ." فَدَعَا اِسم ذلِكَ الْمَوْضِعِ "يَهْوَهْ يِرْأَهْ" أو "الرب يُدبِّر،" "حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: «فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى»" أي في جبل الله هو يُدبِّر.
قبل إغلاق الستار على هذه اللحظة البطولية في التاريخ، لم يكن إبراهيم وحده هو الذي تنفَّس الصُّعداء لنجاة اِبنه من الموت، بل أيضًا كلُّ مَن قرأ هذه القصة. وهكذا نفكر في أنفسِنا: "يا لها من نهاية رائعة لهذه القصة." لكن لم تكن هذه حقًّا هي النهاية، بل كانت مجرد فترة اِستراحة!

بعد ألفي عام، فُتِح الستار من جديد على خلفية قاتمة ومشؤومة. وابن الله في وسط خشبة المسرح في جبل الجلجثة. فقد ألزمته الطاعة المُحِبة بتنفيذ مشيئة أبيه، فُعلِّق هناك حاملًا خطايا شعبه، ملعونًا، ومرفوضًا من خليقته، ومتروكًا من الله. ثم كسر هذا الصمتَ صوتُ غضبِ الله كرعدٍ مرعب. وأخذ الآبُ السكين، ومد ذراعه، وذبح "ابنه الوحيد الذي يُحبه،" متمِّمًا كلمات إشعياء النبي: "لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا... أمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ."

ثم أُغلِق الستار مرة أخرى على مشهد الاِبن المذبوحٍ، والمسيح المصلوب؛ كي ينفتح لخطاة مستحقين الجحيم. وبخلاف قصة إسحق، لم يكن هناك كبش ليموت عِوضًا عنه، فقد كان هو الحمل الذي مات عن خطايا العالم، بتدبير الله لفداء شعبه، فقد تمَّم المسيح ما كان إسحق والكبش مجرد ظِل أو رمز له. وتغيَّر فيه اِسم ذلك الجبل المرعب المدعو جلجثة، ليُصبح اِسمه "يهوه يرأه" أو "الرب يدبر"، حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: "في جبل الرب يُرى." أي في جبل الرب هو يُدبِّر.
إن الجلجثة هي الجبل، والخلاص هو التدبير. ذات يوم نادى الله إبراهيم وقال له: "إِبْرَاهِيمُ! إِبْرَاهِيمُ!... الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي،" والآن يصرخ المؤمنون مِنَّا إلى الله بمثل هذا الكلام قائلين: "يا الله إلهي، الآن علمت أنك تحبني فلم تمسك ابنك وحيدك الذي تحبه عني."
مات المسيح، لكنها ليست النهاية، بل يبقى مشهد آخر، مشهد قيامة وتتويج عظيم!

لقراءة المقال باللغة الإنجليزية:
https://heartcrymissionary.com/theological-forum/the-cross-of-jesus-christ/
مشاركة المقالة
عن الكاتب
پول واشر

خدم پول واشر كمرسل في پيرو مدّة عشر سنوات، والتي أسَّس خلالها جمعية هارت كراي الإرسالية لدعم زارعي الكنائس في الپيرو. يخدم پول حاليًّا كأحد العاملين في جمعية هارت كراي لدى پول وزوجته كارو ثلاثة أبناء: إيان، وإيڤان، وروان.

المزيد من المقالات