إنجيل مُخزي

التاريخ

١٣ مايو ٢٠٢٠

الموضوع

الوعظ

الكاتب

پول واشر

المصدر

"لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلًا ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ." (رومية 1: 16)
كان لبولس، من ناحية الجسد، كل الأسباب التي تجعله يستحي من الإنجيل الذي بشَّر به؛ لأنه كان يُناقَض كلَّ ما هو حق ومقدَّس بحسب اِعتقاد معاصريه. وكان الإنجيل يمثل لليهود أسوأ أنواع التجديف؛ لأنه يدَّعى أن الناصري الذي مات ملعونًا في الجلجثة هو المسيا. كما كان لليونانيين أسوأ ضروب السخافة؛ لأنه ادّعى أن هذا المسيا اليهودي هو الله الظاهر في الجسد. ومِن ثمَّ كان بولس يعرف أنه كلما فتح فاه ليتكلم بالإنجيل، سيرفَضونه تمامًا، ويَسخَرون منه لدرجة الاِحتقار، ما لم يتدخل الروح القدس، ويتحرك في قلوب وأذهان سامعيه. وفي أيامنا الحالية، لا يُواجه هذا الإنجيل الأول اِزدراءً أو عدائيةً أقل؛ لأنه لا يزال يناقض كلَّ معتقد أو "مذهب" تابع للثقافة المعاصرة، مثل النسبية، والتعددية، ومذهب الإنسانية.

نعيش في عصر من النسبية، والذي يُعد نظامًا إيمانيًّا يستند على اليقين المطلق بأنه لا يوجد شيء مطلق. إننا برياء نُشِيد بالبشر لسعيهم للحق، لكننا نطالب بالإعدام العلني لأي شخص معتدٌ بنفسِه يُعلن أنه قد وجد الحق. فنحن نحيا في عصر مظلم فرضناه على أنفسِنا، والسبب واضح: أن الإنسان الطبيعي كائن ساقط، وفاسد أخلاقيًّا، ومصِّمم على الاستقلالية (أي: الحكم الذاتي). ويكره الله؛ لأن الله بار، ويكره شرائعه؛ لأنها توبِّخ شرَّه وتقيده. ويكره الحق؛ لأنه يفضح حقيقته، ويُكدِّر ما تبقى لديه من ضمير. لذلك يحاول الإنسان الساقط إبعاد الحقيقة عنه قدر الإمكان، وخاصة الحقيقية عن الله. ويتحرك إلى أقصى حد ليقمع الحق إلى درجة الاِدعاء بأنه غير موجود أصلًا، حتى إن كان موجودًا، فلا يُمكن أن يكون معروفًا، أو له أي تأثير على حياتنا. لم تكن القضية قط قضية إله مختبئ، بل قضية إنسان مختبئ. وليست المشكلة مشكلة الفكر بل الإرادة. فمثل النعامة التي تدفن رأسها في الرمل لتتجنب ثورًا ضخمًا مندفعًا تجاهها، يُنكر الإنسان المعاصر حقيقة وجود إله بار، والثوابت الأخلاقية؛ على أمل تسكين ضميره، وطرد الدينونة التي يعلم أنه لا مفرَ منها، من ذهنه. إن الإنجيل المسيحي هو فضيحة للإنسان ولثقافته؛ لأنه يَفعل الأمر الوحيد الذي يُريد الإنسان أن يتجنبه بشده، حيث يُوقظه من غفوته التي فرضها على نفسِه؛ حتى ينتبه إلى حقيقة حالته الساقطة والمتمردة، ويدعوه ليرفض الاستقلالية، وليخضع لله بالتوبة والإيمان بيسوع المسيح.

إننا نعيش في عصر التعددية، الذي يُعد نظامًا إيمانيًّا يضع نهاية للحق بإعلان أنَّ كل شيء حق، خاصةً فيما يتعلق بالدين. قد يكون صعبًا على المؤمنيين المعاصرين فهمُه، لكن تعرَّض المؤمنون الذين عاشوا في القرون الأولى من الإيمان إلى التشويه والاضطَهَاد كملحدين. حيث كانت الثقافة المحيطة بهم منغمسة في الإيمان بوجود إله. كما كانت صور وثماثيل الآلهة في كل مكان، وكان الدين عملًا مزدهرًا. لم يتسامح البشر مع آلهة الآخرين فحسب، بل تبادلوهم وتشاركوهم أيضًا. وكان العالم المتديِّن بأكمله متناغمًا، حتى ظهر المسيحيون وأعلنوا: "إِنَّ الَّتِي تُصْنَعُ بِالأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً." فأنكروا على القياصرة الإجلال الذي طالبوا به، ورفضوا أن يحنوا ركبة لكل الآخرين المدعوين آلهة، واعترفوا بيسوع وحده ربًّا للكل. ونظر العالم بأسره لذلك على أنه غطرسة سافرة، وقرر أن يردَّ بشراسة على هذا النوع من عدم تسامح المسيحيين مع التسامح.

يتكرر السيناريو ذاته كثيرًا في عالمنا اليوم. فنحن نسمع، ضد كل منطق، أن كل وجهات النظر فيما يخص الدين والأخلاق صحيحة مهما اختلفت وتناقضت جذريًّا مع بعضها البعض. ويُعد أكثر الجوانب الساحقة في كل هذا أنه من خلال مجهودات الإعلام والعالم الأكاديمي التي لا تَكِل، أصبحت هذه وجهة نظر الغالبية. ومع ذلك، لا تعالج التعددية القضية ولا تشفي المرض، بل تخدِّر المريض فحسب، حتى لا يعود يشعر أو يفكر. ويرى البعض بأن الإنجيل فضيحة؛ لأنه يوقظ الإنسان من غفوته، ويرفض أن يَدعه يستند على أساس غير منطقي كهذا، إذ يجبره أن يصل لاِستنتاج "حَتَّى مَتَى تَعْرُجُونَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ؟ إِنْ كَانَ الرَّبُّ هُوَ اللهَ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْلُ فَاتَّبِعُوهُ."

إنَّ الإنجيلَ الحقيقي حصريٌّ جذريًّا، فيسوع ليس طريقًا، بل هو الطريق، وكل الطرق الأخرى ليست بطرق على الإطلاق. إن خَطَت المسيحية خُطوة واحدة صغيرة تجاه المزيد من التسامح العالمي، واستبدلت أداة التعريف "الـ" بالتنكير، ستنتهي الفضيحة، وتُصبح المسيحية والعالم أصدقاء. غير أنه حين يحدث ذلك لن تكون المسيحية مسيحيةً، وسيُنكر المسيح، وسيكون العالم بلا مُخلِّص.

إننا نعيش في عصر الحركة الإنسانية. وعلى مر العقود العديدة الماضية حارب الإنسان؛ ليمحو الله من ضميره وثقافته. وقد هدم كلَّ مذبح مرئي للإله الواحد الحقيقي، وشيَّد نُصبًا تذكارية لنفسِه بغيرة شخص متعصب لدينه. ونجح في أن يجعل نفسَه المركز، والمعيار، والهدف لكل الأشياء. وصار يمجِّد قيمته المتأصِّلة، ويُطالب بالثناء على اِعتداده بذاته، وصار يعزِّز تحقيق ذاته؛ باِعتباره الخير الأعظم. ويُفسِّر ضميره المنزعج بأنه بقايا ديانة عتيقة من الشعور بالذنب، ويُبرِّر نفسَه من أية مسؤولية على الفوضى الأخلاقية المحيطة به، بإلقاء اللوم على المجتمع، أو على الأقل على ذلك القطاع من المجتمع الذي لم يبلغ استنارته بعد. وأي تلميح بأن ضميره قد يكون محقًّا في شهادته ضده، أو أنه قد يكون مسؤولًا عن مختلَف الأمراض غير المحدودة في العالم، هو أمر غير وارد في تفكيره. ولهذا السبب، الإنجيل هو فضيحة للإنسان الساقط؛ لأنه يفضح أوهامه عن نفسِه، ويُوَبِّخه على حالته الساقطة وذنبه. وهذا هو العمل الأساسي الأول للإنجيل، ولهذا السبب يبغض العالَمُ بشدة الكرازة الحقيقية بالإنجيل. وتُفسد هذه الكرازة اِحتفال الإنسان، وتُمطر على موكبه، وتفضح اِدعاءاتِهِ التي صنعها، وتكشف عن أن الإمبراطور لا يلبس شيئًا.

يُقِّر الكتاب المقدس بأن إنجيل يسوع المسيح "حجر عثرة" و"جهالة" لكل البشر في كل عصر وثقافة. ومع ذلك، فمحاولة محو الفضيحة من الرسالة يَعني إبطال صليب المسيح وقوته المخلِّصة. ويجب فهم أن الإنجيل ليس فاضحًا فقط، بل من المفروض أن يكون فاضحًا! اختار الله من خلال جهالة الإنجيل أن يُبيد حكمة الحكماء، ويُبطل ذكاء أعظم العقول، ويذل كبرياء كل البشر؛ حتى لا يفتخر أيُّ جسد في محضره. كما هو مكتوب: «مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ».

لم يناقض إنجيل بولس دين وفلسفة وثقافة عصره فقط، بل أعلن الحرب عليهم. ورفض عقد أي هدنة أو معاهدة مع العالم، ولم يقبل بشيء أقل من استسلام الثقافة المُطْلق لربوبية يسوع المسيح. وسنفعل حسنًا إن حذونا حذو بولس. يجب أن نكون حذرين، ونهرب من كل إغراء لتطويع إنجيلنا مع ميول هذا العصر ورغبات الجسديين. ليس لنا حق أن نخفف هجومه، أو نجعل مطالبه الجذرية أكثر ملاءمة للتمدُّن؛ كي نجعله أكثر جاذبية لعالم ساقط، أو لأعضاء كنيسة جسديين.

تملك كنائسنا العديد من الاِستراتجيات لتكون مريحة وودودة تجاه جمهورها أو طالبيها، عن طريق تقديم الإنجيل في عبوة جديدة، وإزالة حجر العثرة، ونزع الطرف الحاد من النصل؛ حتى يكون مقبولًا أكثر من الجسديين! ينبغي أن نراعي الكياسة مع مرتادي الكنيسة، لكن ينبغي أيضًا أن نُدرك أن الله هو الوحيد الذي يسعى حقًا في هذه العلاقة. وإن كنا نسعى بشدة لتكون كنسيتُنا ورسالتُنا ملائمتين، فلنجعلهما ملائمتين لله. وإن كنا نسعى لبناء كنيسة أو خدمة فلنبنيهما بالشوق إلى تمجيد الله، وبالرغبة في عدم إهانة جلاله. لن نعبأ بما يظنه العالم بنا؛ فنحن لا نسعى لمظاهر الحفاوة الأرضية، بل نتوق للمجد السماوي.

لقراءة المقال باللغة الإنجليزية:
https://heartcrymissionary.com/theological-forum/scandalous-gospel/
مشاركة المقالة
عن الكاتب
پول واشر

خدم پول واشر كمرسل في پيرو مدّة عشر سنوات، والتي أسَّس خلالها جمعية هارت كراي الإرسالية لدعم زارعي الكنائس في الپيرو. يخدم پول حاليًّا كأحد العاملين في جمعية هارت كراي لدى پول وزوجته كارو ثلاثة أبناء: إيان، وإيڤان، وروان.

المزيد من المقالات