لا يستند إيمان أحدهم بالمسيح على قدرته على سرد الأحداث التاريخية أو الشرعية على القيامة. كما أن هذا الإيمان لا يَثبُت أو ينهار بحسب قدرة المؤمن على الدفاع عن صحته باستخدام علم الدفاعيات أو المنطق الكلاسيكي. ومع ذلك، ثمة أهمية لأن ندرك وأن نعلن أن الإيمان المسيحي لا يتعارض مع التاريخ، أو مع أسمى وأبسط استخدام للمنطق. فإن المسيحية الحقيقية لا تجد جدوى من سعيها إلى تحويل أسطورة إلى رواية نافعة، من أجل الترويج لفضيلة أخلاقية معيَّنة في العالم. لكن الإيمان المسيحي والاعتقاد بصحة قيامة يسوع المسيح يرتكزان على أحداث تاريخية واقعية، يمكن دعمها جيدًا بأنواع الأدلة نفسها التي يستخدمها "المؤرِّخ العلماني"
وأولئك الذين يرفضون ادِّعاءات المسيحية، ويحسبونها غير تاريخية أو أسطورية يفعلون ذلك انطلاقًا من افتراضات تحيُّزيَّة مسبقة، لا تسمح للأدلة بالتحدُّث عن نفسها. وكما يقول روبرت ريموند "Robert Reymond" هم يفعلون ذلك "بناء على أُسُس نقدية وفلسفية مشكوك في أمرها إلى حد كبير، لكنهم ميَّالون إليها نفسيًا ودينيًا بدرجة أكبر". فإن منطقهم محفوفٌ بالمخاطر، إذ قد قرَّروا مسبقًا أن القيامة من المستحيلات؛ ومن ثَمَّ، فإن كلَّ دليل يؤيِّد شرعية هذا الحدث هو حتمًا مغلوطٌ، وكلَّ ادعاء بمصداقيته هو حتمًا استنتاج شخص أحمق، أو شيء من ابتداع دجَّال.
إن عداء الخطاة من نحو الإنجيل هو سببٌ آخر يدعونا إلى التيقُّن من أنه بمعزل عن نعمة الله وتجديد الروح القدس، لن يقبل أحدٌ ادعاءات المسيح. فإن الإنسان سيتجاهل الادِّعاءات التي يستطيع تجاهُلها، ويحرِّف تلك التي لا يستطيع تجاهُلها، ويقاوم تلك التي لا يستطيع تحريفها. بعبارة أخرى، سيبذل الإنسان لرفض الحق طاقة أكبر من تلك التي كان ليبذلها لو خضع له ببساطة.
ومع أنَّ دراسة كافة الأدلة المؤيِّدة لقيامة المسيح أمرٌ يفوق نطاق هذا الدليل الدراسي، لكننا سنستعرض في هذا الفصل بعض الأدلة الشرعية والمنطقية الأكثر فائدة لكلٍّ من إيمان المؤمن وتساؤلات الباحث.
حدثٌ تم التنبُّو به
لم يكن موت يسوع المسيح وقيامته حدثين غير متوقَّعين وقعا بغتة، لكن توجد نبوات واضحة عن هذين اللذين يُعَدَّان تتميمًا حتميَّا لمشيئة الله. يتَّضح ذلك من خلال كلمات يسوع في لوقا24: 25-26 بعد قيامته لتلاميذه المتشكِّكين:
«أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاء أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟»
أُعلِنت قيامة المسيَّا بوضوح في نبوات العهد القديم التي كُتِبت قبل مجيئه بمئات السنوات. تنبأ داود بأن الله لن يترك المسيَّا للقبر، ولن يدع جسده يرى فسادًا (مزمور16: 8-11). وتطلَّعَ النبي إشعياء إلى المستقبل، ورأى الله يكافئ المسيَّا مكافأة عظيمة، بعد أن احتمل خطايا شعبه حتى الموت (إشعياء53: 12). وتنبأ المسيح نفسه عن موته وقيامته، قبل صلبه بفترة كبيرة. وعندما طلب منه اليهود غير المؤمنين أن يريهم آية أو برهانًا على سلطانه على تطهير الهيكل، قال: «انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». (يوحنا2: 19). وعندما طلب منه الكتبة والفريسيون برهانًا آخر على ادِّعاءاته المسيَّانية، كان توبيخه لهم مصحوبًا بوعدٍ بقيامته المستقبلية:
«جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال.» (متى12: 39-40)
تبيِّن هذه النبوات أن تلاميذ المسيح لم يختلقوا فكرة القيامة كمحاولة يائسة منهم للإبقاء على الحلم المسياني. فقد تكلَّم المسيح عنها مرارًا كثيرة، وبوضوح شديد (متى16: 21)، لدرجة أن أعداءه أنفسهم كانوا على علمٍ بتنبؤه عن قيامته من الأموات:
وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ» (متى27: 62-63)
القبر الفارغ
أمام كل هذا الاهتمام الذي أُولي لجسد يسوع بعد موته، ليس فقط من قبل تلاميذه، بل أيضًا من قبل أعدائه، يُعَد القبر الفارغ والجثة التي لم يُعثَر عليها دليلًا دامغًا على حدوث قيامة. فمنذ اليوم الأول، كان كلُّ ما يلزم للقضاء على المسيحية هو إظهار جثة يسوع الإنسان. كان رؤساء اليهود الذين طالبوا بموته، والسلطات الرومانية التي صلبته يعرفون الموقع المحدَّد للقبر، وأُتيح لهم الكثير من الفرص لنبش القبر وإخراج الجثة. لو لم يكن القبر فارغًا، لاستطاعوا بخطوة جريئة واحدة أن يُثبِتوا للعالم أن رسالة القيامة مجرد خدعة، وإن الرسل ما هم إلا أناسٌ مضلِّلون يروِّجون لخرافة. وحينئذ، كانت المسيحية لتموت في مهدها. فلماذا لم تُظهَر الجثة قط؟
ابتدع المشكِّكون ثلاث نظريات ردًا لهذا السؤال، وجميعها تتساوى في عدم معقوليتها. النظرية الأولى، التي عادة ما يُطلَق عليها "نظرية الإغماء"، تقول إن يسوع لم يمت على الصليب الروماني، لكنه فقط فقد وعيه، وأسيء تشخيص حالته. ولاحقًا، حين وُضِع في القبر الرطب، استعاد وعيه، واستطاع الهرب. تأسَّست الحُجج المعارضة لهذه النظرية على أساس طبيعة الصلب نفسه-فقد طُعِن المسيح في جنبه بحربة رومانية، وأُعلِنت وفاته بعد فحص دقيق من خبراء (يوحنا19: 31-34). بل ولو كان قد نجا بطريقة ما من هذه المحنة، لما كانت حالته لتسمح له البتة بتحريك الحجر الثقيل الذي يسد مدخل القبر. علاوة على ذلك، يبدو من المستبعد تمامًا أن يتمكَّن هذا الرجل من الهرب إلى منطقة مجهولة في فلسطين، وقضاء بقية حياته مجهول الهوية.
تقول النظرية الثانية إن التلاميذ سرقوا الجثمان، وأعادوا دفنه في مكانٍ مجهول. تنبَع الحُجج المعارضة لهذه النظرية من مصدرَين: الأول هو الشراسة التي اشتهر بها الحراس الرومان، الذين كانوا ذوي شخصيات ومهارات استثنائية؛ والثاني هو ما رواه العهد الجديد عن خوف التلاميذ وقت موت المسيح، وبعده. يخبرنا الكتاب المقدس بأنه بعد موت المسيح مباشرة، طلب رؤساء الكهنة والفريسيون من بيلاطس تأمين القبر بواسطة حراس رومانيين مدرَّبين، لمنع التلاميذ من سرقة الجثمان والترويج لخرافة قيامته من الأموات (متى27: 64). من المستبعد تمامًا أن تتمكَّن حفنة من التلاميذ المرتعبين من التغلُّب على فرقة كاملة من الحراس الرومان، وسرقة جسد يسوع. فقد سبق وأظهر التلاميذ افتقارهم إلى الشجاعة عندما تخلُّوا عن المسيح في أثناء الصلب (مرقس14: 27؛ متى26: 56)، وعندما لم يتمكن سمعان بطرس، الأكثر إقدامًا فيهم، حتى من مواجهة جارية قالت إنه واحدٌ من أتباع المسيح (لوقا22: 55-62). كذلك أيضًا، من المستبعَد أن تستغرق فرقة كاملة من الحراس الرومان في النوم أثناء ورديَّتهم، كما افترض رؤساء الكهنة (متى28: 11-15). ففي حقيقة الأمر، يتطلب تصديق هذه النظرية إيمانًا أكثر من الإيمان المطلوب لتصديق صحة القيامة!
تقول النظرية الثالثة ببساطة إن التلاميذ ذهبوا إلى القبر الخطأ. هذا أيضًا مستبعَد تمامًا في ضوء أن القبر كان ملكًا ليوسف الرامي، الذي كان عضوًا في مجمع السنهدرين (متى27: 57-61؛ مرقس15: 42-47؛ لوقا23: 50-56). فقد كان هو ونيقوديموس، الذي كان فريسيًّا ورئيسًا لليهود (يوحنا3: 1)، هما اللذان جهَّزا جسد يسوع للدفن، ووضعاه في القبر (يوحنا19: 38-42). أضف إلى ذلك أن الكتاب المقدس يخبرنا بأن النساء اللواتي تبعن يسوع من الجليل كنَّ يعرفنَ أيضًا موقع القبر بدقة (متى27: 61، مرقس15: 47؛ لوقا23: 55). لو كان التلاميذ قد ذهبوا إلى قبر آخر، فمن المؤكد أن الصديق والعدو على حد سواء كان ليصحِّح خطأهم، ويقتادهم إلى القبر الصحيح، ويفك أكفان الجثمان، ليريهم بقايا جثة يسوع. مرة أخرى، هذه النظرية سخيفة وغير معقولة، نظير سائر النظريات.
شهود جديرون بالثقة
لتأكيد تاريخية أو حقيقة حدثٍ ما، يلزم توفر ثلاثة أشياء: (1) لا بد من وجود شهود عيان؛ (2) لا بد أن يكون عدد شهود العيان كافيًا؛ (3) لا بد أن يُظهِروا استقامتهم أو أنهم جديرون بالثقة. من المثير للاهتمام أن هذه الشروط جميعها توفرت في شهادة الكتاب المقدس عن قيامة يسوع المسيح.
أولًا، بُنِيت شهادة الكتاب المقدس على روايات شهود عيان على خدمة المسيح، وقيامته، وصعوده. يتَّفق كلُّ كاتب من كتبة العهد الجديد مع الرسول بطرس الذي قال في 2بطرس1: 16،
"لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ."
يقرُّ كتبة العهد الجديد بوضوح بأهمية الشهادة المباشرة، أو شهادة شهود العيان. فكي ينضم مَتِيَّاس إلى الأحد عشر، كان لا بد أن يكون شاهد عيان على حياة المسيح وخدمته، بدءًا من معمودية يوحنا، مرورًا بالقيامة، ثم وصولًا إلى اليوم الذي فيه صعد المسيح إلى السماء (أعمال الرسل1: 21-26). وعند كتابة لوقا لإنجيله، بذل جهدًا كي يؤكِّد أنه كان يؤلِّف "قِصَّةٍ فِي الْأُمُورِ" التي "سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ" (لوقا1: 1-4). كما بدأ الرسول يوحنا رسالته الأولى (الآيات 1-4) بتأكيد قوي وبليغ على امتياز العلاقة الشخصية مع المسيح الابن، الذي تمتَّع به الرسل أجمعون، تلك العلاقة التي شكَّلت أيضًا أساس كلٍّ من عقيدتهم وكرازتهم للآخرين: "اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا. الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلًا."
ينبغي أن يتَّضح لكلِّ فاحص غير متحيِّز أن الرسل كانت لديهم معرفة شخصية ومباشرة بحياة المسيح، وموته، وقيامته؛ وأنهم أيضًا كانوا يدركون أهمية التأكيد على طبيعة معرفتهم هذه. فقد أرادوا أن يعرف العالم أنهم لم يكونوا مضلَّلين بشائعات، لكنهم لمسوا يدَي، ورجليَ، وجنب المسيح القائم من الأموات (لوقا24: 39؛ يوحنا20: 27). فقد أكلوا وشربوا معه (لوقا24: 13-32، 36-43؛ يوحنا21: 12-14)، وتلقُّوا تعليمًا منه (لوقا24: 44-49)، وأخيرًا، سجدوا له فيما كان يغيب عن أنظارهم منطلقًا إلى السماء (لوقا24: 50-53).
ثانيًا، كي تتأكَّد تاريخية أو حقيقة حدثٍ ما، لا بد من وجود عددٍ كافٍ من شهود العيان. بكل بساطة ووضوح، كلما ازداد عدد شهود العيان، كان الحدث أكثر مصداقية. نجد هذا المبدأ نفسه في ناموس العهد القديم، وفي وصايا العهد الجديد للكنيسة: لا يتأكَّد حدثٌ ما إلا بشهادة شاهدين أو ثلاثة على الأقل (تثنية17: 6؛ 19: 15؛ متى18: 16).
توفر هذا الشرط أيضًا في قضية قيامة المسيح. يخبرنا الكتاب المقدس بأنه كان هناك المئات من الشهود الجديرون بالثقة الذين التقوا المسيح القائم من الأموات في مواقف وظروف مختلفة. ففي أحد القيامة، ظهر المسيح لمريم المجدلية في البستان (يوحنا20: 11-18)، ثم ظهر مرة أخرى لمجموعة صغيرة من النساء اللواتي كن عائدات من القبر (متى28: 9-10). وفي اليوم نفسه، انضم إلى كليوباس وتلميذ آخر كانا سائران معًا في الطريق إلى عمواس (مرقس16: 12-13؛ لوقا24: 13-32). وقبل انتهاء اليوم، ظهر لبطرس أيضًا (لوقا24: 34)، ثم لعشرة من التلاميذ في العلية (لوقا24: 36-43؛ يوحنا20: 19-25). وفي الأحد التالي، ظهر للأحد عشر رسولًا أجمعين، وأجرى حديثه الشهير مع توما المتشكِّك (مرقس16: 14؛ يوحنا20: 26-29؛ 1كورنثوس15: 5). بعد ذلك، ظهر لأكثر من خمسمئة شاهد دفعة واحدة (1كورنثوس15: 6)، وليعقوب أخيه غير الشقيق (1كورنثوس15: 7). وفي وقتٍ غير معلًن، جاء مرة أخرى إلى بطرس، ويوحنا، وخمسة تلاميذ آخرين فيما كانوا يصطادون عند بحيرة طبرية (يوحنا21: 1-14). وأخيرًا، صعد إلى السماء في وجود تلاميذه فوق جبل الزيتون (لوقا24: 50-53؛ أعمال الرسل1: 9-11).
في ضوء شهادة الكتاب المقدس، يستحيل تكذيب رواية قيامة المسيح بناء على فكرة كاذبة مفادها عدم وجود عدد كاف من شهود العيان. يشهد تشارلز سبرجن، الواعظ البريطاني العظيم، عن هذا الحق بفصاحة، قائلًا:
" ألا يدهشك أن الكثير جدًا من أهم الأحداث المسجَّلة في التاريخ، والتي يصدِّقها الناس في العموم، لا يبلغ عدد الشهود عليها، بطبيعة الحال، عُشر عدد الشهود على قيامة المسيح؟ فإن توقيع المعاهدات الشهيرة التي أثَّرت في دولٍ بكاملها، ومولد ملوك، وكلمات رؤساء وزارات، ومكائد متآمرين، وأفعال قتلة - جميعها جُعِلت نقاط تحوُّل في التاريخ، دون أن يُشكِّك أحد في حقيقتها، مع أن قليلين كانوا شهودًا عليها...فلو أردنا إنكار هذه الحقيقة (أي القيامة)، تصِر هذه إذن نهاية كل شهادة، ونكون بذلك وكأننا نردِّد عمدًا ما قاله داود في عجالة: "كُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبٌ". ومن هذا اليوم فصاعدًا، على كلِّ إنسان أن يتشكك بشدة في قريبه، وألا يصدِّق البتة أي شيء لم يره بعينيه. بل وستكون الخطوة التالية أن يشكَّ حتى في الأدلة المستمَدة من حواسه هو. لن يسعني حينئذ التنبؤ عن مقدار الحماقات الأخرى التي سيندفع إليها الناس".
أخيرًا، كي تتأكَّد تاريخية أو حقيقة حدثٍ ما، لا بد أن يُظهِر شهود العيان استقامتهم. بعبارة أخرى، لا بد أن يُثبِتوا أنهم جديرون بالثقة. لا يخفى على أحد أنه طَوال تاريخ المسيحية، بذل عددٌ لا يُحصَى من الشكوكيين قصارى جهدهم لتكذيب شهود العهد الجديد، لكنهم لم يتمكَّنوا قط من إثبات كذبهم، أو تجريدهم من أهليتهم بناء على أسس أخلاقية. ومن ثَمَّ، بات هؤلاء الشكوكيون مُجْبَرين على تركيز هجماتهم على احتمالية خداع النفس، والهستيريا الجماعية.
فقد قيل إن التلاميذ وكثيرين من يهود القرن الأول كانوا ميَّالين إلى تصديق القيامة، ولذلك، رأوا ببساطة ما أرادوا أن يروه. ويستخدم أنصار هذا الرأي المنطق التالي في التفكير. أولًا، عانت الأمة اليهودية من قَمعٍ لا يُحتمل من الإمبراطورية الرومانية؛ ولذلك، كان اليهود في أيام يسوع توَّاقين إلى مجيء المسيَّا، مما سهَّل مهمة خداعهم. فإن كثيرين من اليهود كانوا قد تبعوا بالفعل مُسحاءً كذبة كثيرين قاموا في وسط الشعب (أعمال الرسل5: 36-37)، الشيء الذي يُبرهن على استعدادهم لتصديق أيَّ شيء تقريبًا. تنبَّأ يسوع كثيرًا عن قيامته المستقبلية. وقد كانت هذه النبوات تربة خصبة ومثالية لإنبات خداع النفس والهستيريا الجماعية في ضوء محبة التلاميذ الشديدة لمعلِّمهم الحبيب.
الكثير من الحقائق يناقض هذه النظريات التي تحظى بشعبية كبيرة. أولًا، الغالبية العظمى من الأمة اليهودية رفضت أن يكون يسوع الناصري هو المسيَّا. فقد كانت خدمته على الأرض وموته حجر عثرة لهم (1كورنثوس1: 23). ولم تكن إضافة القيامة إلى رسالة الصليب المُخزية بالفعل سببًا لجعل ادعاءات يسوع بأنه المسيَّا أكثر إقناعًا لليهود. علاوة على ذلك، هذه النظرية لا تأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنه في غضون بضعة عقود، صارت الغالبية العظمى من المؤمنين من الأمم، الذين لم يكن لديهم أي ميل لتصديق أي شيء عن الإنجيل. وعن ذلك كَتَب لويس وديماريست ما يلي:
"وقع هذا الحدث في تناقُض صارخ مع ما كانوا [أي اليهود] يتوقَّعونه لاهوتيًا؛ كما كان في تعارُض حقيقي مع إطار الفلسفة الحياتية العلمانية آنذاك. فقد كان لليهود حجر عثرة، ولليونانيين هراء، لأن تصديق هذا الدليل كان يستلزم حدوث ثورة كوبرنيكية في لاهوتهم وفي فهمهم عن الكون".
ثانيًا، لم يكن اليهود والأمميون وحدهم ميَّالين إلى الإيمان بالقيامة، بل يمكننا قول الشيء نفسه-دون تحفظ- عن التلاميذ أيضًا. كانت مريم المجدلية أول مَن رأى المسيح بعد القيامة؛ ولكن، حين رأت القبر الفارغ في البداية، ظنت أن أحدهم سرق جسد الرب، ونقله إلى مكان غير معلوم (يوحنا20: 2، 13، 15). بل حتى بعد انتشار أخبار قيامة المسيح، ظل التلاميذ غير مصدِّقين. ويخبرنا لوقا بأن خبر قيامة المسيح "تَرَاءَى...لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ" (لوقا24: 10-11)؛ وكتب مرقس أنهم "لَمْ يُصَدِّقُوا" (مرقس16: 11). وفي لقاء التلاميذ الأول مع المسيح القائم من الأموات، ظنوا أنه البستاني (يوحنا20: 15)، وأنه روحٌ (لوقا24: 37)، وأنه مسافر عادي في طريقه إلى عمواس (لوقا24: 13-16). هذه الإساءة الجسيمة، بل والكوميدية إلى حد كبير، في التفسير، لم تقوَّم إلا بالمزيد من ظهورات المسيح، وبشرحه التفسيري الدقيق للناموس والأنبياء (لوقا24: 25-27، 44-46). وكي يتبدَّد شك توما، رأى أنه ينبغي أن يرى آثار المسامير في يَدَي المسيح، ويضع إصبعه في جراحه، ويده في جنبه (يوحنا20: 24-29)! بل إن المسيح أيضًا "وَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ (مرقس16: 14)، وعنَّفهم واصفًا إياهم بأنهم
«الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ» (لوقا24: 25). هذه الحقائق لا تصلح إطلاقًا لتأييد الادِّعاء القائل إن التلاميذ كانوا ميالين إلى الإيمان بالقيامة!
أخيرًا، عادة ما يقتصر وهم أو هلوسة معيَّنة على شخص واحد. ومن ثَمَّ، فإن الاعتقاد بأن مئات الأشخاص الذين ادَّعوا أنهم شهود عيان على قيامة المسيح من الأموات قد اشتركوا جميعهم في الهلوسة نفسها أمرٌ مستبعَد تمامًا. علاوة على ذلك، عادة ما تتطلب الهستيريا الجماعية مساعدة من هيئات ذات نفوذ سياسي أو ديني تتحكَّم في الحشود. غير أنه في قضية قيامة المسيح والإنجيل، فإن المؤسسات ذات النفوذ التي كانت موجودة آنذاك اتَّحدت معًا في مقاومتها للرسالة، وبذلت كلَّ ما بوسعها لتكذيبها. كان غالبية المروِّجين لهذه الرسالة رجالًا عديمي العلم، وعاميين (أعمال الرسل4: 13)، ليس لهم أي نفوذ سياسي، أو ديني، أو اقتصادي، يعزِّزون به قضيتهم.