آمن وأعترف

التاريخ

١٣ مايو ٢٠٢٠

الموضوع

الوعظ

الكاتب

پول واشر

المصدر

مقتطف من كتاب "دعوة الإنجيل والإيمان الحقيقي" لمؤلفه پول واشر

"وَأَمَّا الْبِرُّ الَّذِي بِالْإِيمَانِ فَيَقُولُ هَكَذَا: "لَا تَقُلْ فِي قَلْبِكَ: مَنْ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟" أَيْ لِيُحْدِرَ الْمَسيح، "أَوْ: مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟" أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسيح مِنَ الْأَمْوَاتِ. لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ "اَلْكَلِمَة قَرِيبَةٌ مِنْكَ، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ" أَيْ كَلِمَة الْإِيمَانِ الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا: لِأَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الْأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ. لِأَنَّ الْقَلْبَ يُؤمِن بِهِ لِلْبِرِّ، وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلَاصِ" (رومية ١٠: ٦- ١٠).

هذا واحِدٌ من النُّصوص الأكثر بلاغةً وأهميةً في الكِتاب المُقدَّس؛ إذ يتناول ما يجب أن يفعله شخصٌ ما لينال الخَلاص. عَبْرَ قرون مرَّت على المَسيحية، كان هذا النَّص بمثابة مصدر راحة لكل مؤمن، وحائط دفاع ضد وابل مُستمِر من التعاليم البَاطِلة التي تسعى لخلط الأعمال بالإيمان، واعتبار ذلك وسيلة للخَلاص. لا يربح الإنسان الخَلاص من خلال أي عَمَل شجاع، أو رِحلَة الحياة النبيلة، بل بأن يدعو باسم الرَّب بإيمان.

الكَلِمَةُ قريبةٌ

في الآيات الخمس الأولى في رومية ١٠، يشرح الرَّسول بُولُس الخطأ اللاهوتي الكبير الذي وقع فيه الكثيرون من شعب إسرائيل. بالرغم من أن لديهم غيرة محمودة، لم يسعوا أن يكونوا مُبرَّرين أمام الله بالإيمان من خلال عَمَل ابنه الكَفَّاري. وبدلًا من ذلك، سعوا نحو البِر من خلال الطاعة الصارمة والشديدة للناموس. عارض بُولُس رؤيتهم البَاطِلة بإعلان أن عَمَل المَسيح الكَامِل والمُخلص وَضَعَ نهاية لكل محاولات تأسيس بِر الإنسان الشخصي أمام الله من خلال استحقاق أو مجهود بشري.
يضع الناموس مطالبَ لا يستطيع السَّاقِطون تحقيقها؛ إذ لا يقدرون أن "يصعدوا إلى السماء"، أو "يهبطوا إلى الهاوية". مع ذلك، يختلف الإيمان اختلافًا كَامِلًا. إنه لا يتطلَّب عَمَلا بطوليًّا، أو اتفاقًا دينيًّا مستحيلًا، بل يدعو الشخص للاِعتراف "بحالته العاجزة"، وللارتكاز على شخص المَسيح وإنجازاته. لهذا السبب يُؤكِّد بُولُس الرَّسول للمُؤمِنين في رومية أن كُل ما طلبوه لينالوا التبرير أمام الله، قد أصبح لهم، من خلال إيمانهم "بكلمة" الإنجيل، الذي أصبح "قريبًا" منهم من خلال الوعظ الرَّسولي. يُمكنهم الاطمئنان على خلاصهم؛ لأنهم آمنوا في قلوبهم برسَالة الإنجيل التي قُدِّمت إليهم، وقد اعترفوا علنًا بيسوع ربًّا لهم.

سوء استخدام النَّص

هذا النَّص أصبح بحق واحِدًا من أكثر النُّصوص شهرةً واستخدامًا بين الإنجيليين في العصر الحديث، وهؤلاء الذين يسعون لمشاركة إيمانهم مع الآخرين. مع ذلك، ما الذي يَعنيه هذا النَّص بالفِعل؟ وما تطبيقه السليم في الكِرازة؟ هل يُمكن لشخص تحقيق هذه المتطلبات الكِتابية بخصوص الإيمان والاِعتراف، بمُجرَّد أن يُقرِّر اتِّباع المَسيح، ويُصلِّي صلاة التوبة، أو يعترف بالمَسيح أمام جماعة من المُؤمِنين المُؤيدين؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أن نضعَ كلمات بُولُس في سِياقها الصحيح، ونُحدِّد المَعنى الدقيق للغته. يجب أن نَحذر من افتراض أن النَّص يَعني شيئًا مُعيَّنًا، أو أنه ينبغي أن يُستخدَم بطريقة معينة؛ لمجرد أن المُعاصِرين لنا يتمسَّكون بتفسيرٍ وتطبيقٍ للنصِّ سائدَين ومُنتشرَين. كثيرًا ما نظن أننا نفَهم النَّص؛ لأننا أخذنا تفسيرًا، دون فحص، من أولئك الذين أخذوا هذا التفسير من الآخرين من دون أن يفحصوه. مع ذلك، عندما يدرس شخصٌ ما النَّص فِعليًّا ليعرف "هَلْ هَذِهِ الْأُمُورُ هَكَذَا؟" (أعمال ١٧: ١١)، غالبًا ما تنكسر هذه السلسلة الساذجة من الثقة التي لا ريب فيها. سنُسدي أنفسنا معروفًا إن سألنا أنفسنا هذا السؤال: "هل كتب الرَّسول بُولُس هذا النَّص بهدف أن يُعطينا نموذجًا لصلاة توبة الخاطئ، أم كان في ذهنه هدَف مُختلِف تمامًا؟"
في العالم الإنجيلي المُعاصِر، أصبحت صلاة التوبة أبرز وسيلة لدعوة الناس للمَسيح، ومنحهم يقين الخَلاص. ستجدها في الصفحة الخلفية لمُعظم النُّبذات الكِرازيَّة، وستسمعها في نهاية العديد من العِظات الكِرازيَّة أيضًا. وغالبًا ما تتضمَّن العناصر التالية: يُقاد الشخص الباحث عن الله إلى الاِعتراف بأنه خاطئ وعاجز عن خلاص نفسه. ثم يُوجَّه إلى الاِعتراف بأن يسوع مات لأجل خطاياه، وقام من بين الأموات. بعد ذلك يُشجعونه أن يطلب من يسوع الدخول إلى قلبه، ويكون مُخَلّصا له. ثم يَعِدونه بأنه إن كان قد صَلَّى هذه الصلاة بصدق، فقد نال الخَلاص الآن. وأخيرًا يؤكدون عليه بأنه إن شك في خلاصه، عليه أن يتمسَّك بهذه اللحظة عندما صَلَّى صلاة توبة الخاطئ والاِعتراف بالمَسيح.

على الرغم من وجود بَعض الحق في هذه العناصر المُختلِفة، ينبغي ذكر بَعض الاعتراضات الجادة على هذه الطريقة في دعوة الخطاة للمَسيح:

أولًا: لا توجد سابقة في الكِتاب المُقدَّس لهذه الطريقة. لم يستخدمها المَسيح، ولا الرُّسُل ولا حتى المُؤمِنين الأوائل.

ثانيًا، لم تكن هذه الطريقة معروفة لمُعظم الكَنيسة على مر التاريخ؛ فقد اختُرِعت مؤخرًا.

ثالثًا: يكمن فيها خطر تحويل رسالة الإنجيل إلى إقرار إيمان عقائدي. يعتقد العديد من الأفراد الذين لم يُظهروا بُرهانًا كِتابيًّا على إيمانهم بأنهم نالوا الخَلاص، وذلك ببساطة لأنهم ذات مَرَّة في حياتهم اتخذوا قرارًا باتباع المَسيح، وردَّدوا صلاة الخاطئ هذه. ومع أن المُؤمِنين الذين يستخدمون صلاة الخاطئ في الكِرازة لا يقصِدون ذلك، فإن هذه هي النتيجة الساحِقة لهذه الطريقة. رابعًا: حلَّت هذه الطريقة تقريبًا بالكَامِل محل دعوة الكِتاب المُقدَّس للتوبة والإيمان. من المُذهِل أن يحدثَ عمليًّا تجاهُل لأمثِلة الكِتاب المُقدَّس لدعوة الناس للمَسيح، لصالِح الطريقة العصرية. خامسًا: أصبحت هذه الطريقة الأساس الرئيسي، والوحيد في الكثير من الأحيان، ليقين الخلاص. أي إن العديد من الأشخاص الذين لا يُظهِرون أي دليل على عَمَل الله في حياتهم، مقتنعون، أو مُتيقِّنون، من خلاصهم؛ لأنهم ذات مَرَّة صلُّوا صلاة توبة الخاطئ بصدق.

هذا التطبيق الشائِع لرومية ١٠: ٩ على الشخص الذي يسعى للتوبة، يُخالف مَنطِق بُولُس، وهدفه. إنه يُشوِّه واحِدًا من أقوى تعاليم الكِتاب المُقدَّس عن الإيمان وحده (sola fide)، وواحِدًا من أقوى الوعود لشعب الله. وأيضًا قد حوَّل النَّص إلى عقيدة فارغة استخدمها الناس لتقديم يقين بَاطِل للخلاص لعدد لا يُحصَى من الأفراد الذين يُظهرون قدرًا من ثمار الإيمان يكاد لا يُذكر. لهذه الأسباب، لا بد أن نُلقي نظرة شامِلة على هذا النَّص في ضوء سِياقه اللُغوي والتاريخي.
لفَهم شيء من المعني والهدف اللذين كان بُولُس يقصدهما، سيكون من المُفيد فَهم أنه كان يُشير إلى كُل ما حدث لمرَّة واحِدة في حياة المُؤمِن، ونتيجة أو ثمار هذا الحدث، التي تستمر طوال حياة المُؤمِن. بعِبارةٍ أخرى، إنه يتكلَّم عن تجربة إيمان الشخص، والثمار المُستمِرَّة لإيمانه، التي تُؤكِّد صحته، أو تُظهِر حقيقته. فالخاطئ يتبرَّر أمام الله، ويتصالِح معه، في اللحظة التي يُؤمِن فيها بصدق بشخص المَسيح، وعَمَله الكَفَّاري. مع ذلك، يُعدُّ البرهان على أنه آمن بحق، وتغيَّر بصدق في تلك اللحظة أنه استمر في الإيمان والاِعتراف كُل أيام حياته. وهذا لا يَعني أن المُؤمِن الحقيقي سيكون مُحصَّنًا من الشكوك، أو الفشل، أو مُواجَهة أي عائق في نموِّه نحو النُّضوج، لكنه يَعني أن الله الذي بدأ عَمَلًا صالِحًا فيه سيُكمِل، ويُتقن هذا العَمَل، حتى اليَوم الأخير. إن الخَلاص بالنِّعمة وحدها من خلال الإيمان وحده. مع ذلك، فالبرهان على الإيمان المُخَلِّص هو الاِعتراف الصادق والدائِم برَبوبية يسوع المَسيح طوال حياة المُؤمِن.

هنا تكمُن المشكلة مع استخدام العصر الحديث لهذا النَّص. لا أحد يُمكن أن يُنكر وجود أفراد عديدين في الشارع، وفي مقاعد الكَنيسة، يُؤمِنون أنهم نالوا الخَلاص؛ لأنهم ذات مَرَّة في حياتهم، من المُفترَض، أنهم آمنوا في قلوبهم، واعترفوا بأفواههِم، لكن الثمر الذي أظهروه في حياتهم لا يكاد يُذكر. إنهم يعيشون حياتهم بالكَامِل في شهوة الجَسَد، والمشغولية بالعَالَم، دون أي برهان حقيقي على قوة الله الدائِمة، التي يُعَلَّمنا الكِتاب المُقدَّس أنها دائِما ما تتبع الخَلاص. مع ذلك، يُصرِّون بعناد على قناعاتهم؛ لأنهم ذات مَرَّة في حياتهم، "اتخذوا قرارًا" و"صلُّوا صلاة التوبة". إن الخُدَّام الإنجيليين، الذين يُؤكِّدون صِحة خلاص مِثل هؤلاء الأشخاص، يُزيدون من تفاقم المشكلة. إنهم يبنون تأكيدهم على تجربة إيمان مزعومة، لكنهم يُهملون التفكير في وجود أي دليل على عَمَل التقديس المُستمِر، أو الإثمار. ويبدو أنهم نسوا الحق الأساسي للإنجيل: مُثابرة المؤمنين في خلاصهم، وإنتاجهم للثمر يُثْبِتان الإيمان المُخلِّص الحقيقي. كما أن البرهان على أننا قد نلنا الخَلاص من دينونة الخطية يَظهر في أننا نخلُص حاليًا من قوة الخطية.

الإيمان بالقلب

في رومية ١٠: ٩، ١٠، قال الرَّسول بُولُس إن الإنسان يَخلُص إن آمن "في قلبه" "وبقلبه". إن اعتمد خلاصنا على هذا الإيمان، فإن تفكيرنا وتفسيرنا الصحيح لهاتين العِبارتين لهما أهمية قصوى. وقبل أن نبدأ أية مُناقشَة بخصوص الإيمان، ينبغي أن نتذكر أن الشياطين أيضًا تؤمن وترتعد، لكنها لا تخلُص. عندما بدأ يسوع يكرز في الجليل، صرخت الشياطين التي كانت في أحد الرجال الموجودين بالمجمع: "أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!" (مُرقُس ١: ٢٤). كما قال الإنسان الذي من كورة الجدريين الذي به روح نجس ذلك بأكثر تفصيلٍ عندما اعترف بيسوع: "مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ؟" (مُرقُس ٥: ٧). يُوضِّح الكِتاب المُقدَّس أن الشيطان والأرواح الشريرة لهم معرفة قوية بشخص يسوع المَسيح، وعَمَله، ويقبلون هذه المعرفة بصفتها حقائق مُطلَقة. يعرفون أنه ابن الله، وأنه مات على الجلجثة لأجل خطايا شعبه، وأنه قام من بين الأموات في اليَوم الثالث. مع ذلك، لم تُؤدِّ معرفتهم واِعترافَهم بهذه الحقائق عن المَسيح إلى خلاصهم. ولم ينالوا الخَلاص بما يعرفوا أنه حق، بل وقعت عليهم الدينونة بسبب هذه المعرفة. وهذا الداء نفسه موجود بين البشر.

سيعترف أي تقييم صادق تُجريه الإنجيلية المُعاصِرة بوجود كثيرين مِمَّن يمشون في الشارع، ويجلسون على مقاعد الكَنيسة من "الَّذِينَ نَالُوا مَعَنَا إِيمَانًا ثَمِينًا"، مثلهم في ذلك مِثل الشياطين (٢بُطرُس ١: ١). إنهم يعرفون شيئًا عن شخص المَسيح وعَمَله، وسيعترفون عندما يكون ذلك مُلائمًا. مع ذلك، فالبراهين والأدلة على الحقيقة المُستمِرَّة لعَمَل المَسيح المُخلِّص في حياتهم منعدمة. وقد تأسَّس رجاؤهم في الخَلاص الأبدي على قرارٍ اتَّخذوه منذ فترة طويلة، ويعتقدون أنه قرارٌ صادقٌ "بقبول المَسيح" عن طريق صلاة بسيطة. إن خدام الإنجيل الذين يُفترض أن لهم معرفةً أفضل قد أكَّدوا على رجاء هؤلاء الأشخاص، الذين، مِثلهم مِثل الشياطين، ضالُّون. مع ذلك، بخلاف الشياطين، لا يعرفون ذلك.

الآن، بعد أن رأينا مخاطر الإيمان الذي ليس من القلب، نحن مستعدون لفحص الإيمان الحقيقي الذي من القلب. إنه الإيمان الذي لا يُدرِك ما هو حقيقي عن شخص المَسيح وعَمَله فحسب، بل يَعتمِد أيضًا على هذه الحقائق، ويتغيَّر بها. في الكِتاب المُقدَّس، يُشير القلب إلى الجزء المركزي في الشخص أو جوهره. إنه مقر فِكر الإنسان، وإرادته، وعَواطِفه. بمَعنى يُمكننا قول إن القلب هو مَركَز التحكُّم في كُل ماهيتنا. وما يحدث فيه يُؤثر على كُل شيء آخر يخصنا. لذلك من السُّخف التفكير في أن شخصًا يُؤمِن بشيء "في" قلبه أو "بقلبه" دون أن يكون له أيضًا تأثير واضح وبليغ وجوهري في مُجمَل شخصه.
إن الإيمان في قلبنا بأن الله قد أقام يسوع من بين الأموات يَعني إيمان كِياننا ومَشاعِرنا الباطِنة بأن كُل شيء قاله يسوع عن نفسه صحيحٌ وحقيقيٌّ. قد لا يبدو ذلك جذريًّا للغَايةـ سِوى عندما نُفكِّر في بَعض الأشياء التي قالها فِعلًا:
يسوع هو الله الأزلي وخالِق الكون.
هو الحياة والنور لجميع البشر.
هو المُخلِّص الوحيد للبشرية.
هو صاحِب السيادة المُطلَقة في الكون.
هو مَن سيُحدِّد المصير الأبدي لكل البشر.
هو أغلى من كُل كنوز العَالَم مُجتَمِعة.
تتميم مشيئته وإرساليته غرض هذا الكون وحياة كُل شخص.
ينبغي أن نُحِبه أكثر من أي شخص أو شيء آخر.
ينبغي اتباعه وطاعته تمامًا مُهِما كانت التكلفة.
سيحكم على خدمة شعبه له، ويُكافئهم وفقًا لخدمتهم.
لا تترك هذه الادعاءات الجِذرية عن يسوع أيَّ مجالٍ للاستجابة بلا مبالاةٍ، ولا يُمكن أن نُؤمِن بها في مَركَز فكرنا وإرادتنا وعَواطِفنا، دون اختبار تأثير جذري أو حتى صادِم على حياتنا. من المستحيل لكائن عَقلاني أن يتبنَّى هذه الحقائق، ولا يتغيَّر تغييرًا ملحوظًا. تتطلب طبيعة هذه الادعاءات تغييرًا عنيفًا ومُفاجِئًا في شخصية الإنسان واتجاه حياته.

لذلك، لا يُعدُّ الإيمان الحقيقي المُخلِّص اِعتمادًا سلبيًّا أو جزئيًّا على المَسيح، بل اِعتمادًا نشيطًا ومُتزايدًا. إن الإيمان الحقيقي المخلِّص، من خلال عَمَل التقديس المُستمِر، يشمل في النهاية حياة المُؤمِن بالكَامِل. والبرهان على الإيمان المُخلِّص ليس أننا ذات مَرَّة "قبِلنا المَسيح" من خلال صلاة كررناها عن ظهر قلب. لكن من اللحظة الأولى التي نُؤمِن فيها بالإنجيل، تستمر ادعاءات المَسيح عن نفسه وعنا؛ لتكون واقعًا أعظم في حياتنا.

الاِعتراف بالفم

بعد أن ألقيت نظرةً مُوجَزة على الإيمان الصادق من القلب، يجب التفكير، الآن، في ماذا يَعني أن نعترف بالفم. أول شيء ينبغي ملاحظته من رومية ١٠: ٩، ١٠ هو نوعية الاِعتراف. إنه ليس مُجرَّد اِعتراف إيمان بيسوع المَسيح، بل اِعتراف برَبوبيته وسيادته المُطلَقة والشامِلة. بالتالي، يُعدُّ البرهان على إيمان الشخص بقلبه، وثقته في أن الخَلاص قد قُدِّم بفضل شخص المَسيح، وعَمَله، هو الاِعتراف بيسوع ربًّا.
يُبرهِن التاريخ الطويل للمَسيحية أن الاِعتراف بأن "يسوع رب"، وباليونانية تَعني (Kúrios Iesous)، هو أكثر الأشياء الجذرية والمكلفة. في العَالَم الروماني، لم يكن سِوى ربٍّ واحِد اسمُه قيصر. حتى إن ذكر إمكانية وجود ربٍّ آخر كان يُعدُّ خيانة سياسية، وغالبًا ما كان يؤدي إلى الإعدام أو النفي. وفي الديانة اليهودية، لم يكن يُوجَد سِوى ربٍّ واحِد، اسمُه يهوه. وكان إعطاء لقب "رب" لآخر يُعدُّ تجديفًا، ويستحق الشخص عليه الموت. كتب الباحث اليوناني المشهور أرشيبالد توماس روبرتسون: "لا يُمكن ليهودي لم يؤمن فِعلا بالمَسيح أن يفِعل ذلك "أي الاعتراف بالفم"؛ لأن كَلِمَة [رب] (kúrios) في الترجمة السبعينية تُستخدَم لتَعني الله. ولن يفعَلَ ذلك الأمميُّ الذي لم يتوقف عن عبادة الإمبراطور بصفته رب (kúrios)". ويُواصل روبرتسون حديثه قائلًا: "يتذكر المَرء الطلب المُوجَّه إلى بوليكارس بأن يقول إن قيصر هو رب (Kúrios Kaisar)، وكيف أن بوليكارس يرد في كُل مَرَّة بأن يسوع هو رب (Kúrios Iesous). وقد دفع حياته ثمنًا لولائه. قد يقول البَعض اليَوم "الرب يسوع" بطريقة طائشة، أو باستخفاف، لكن لم يكن يستطيع أي شخص يهودي أو أممي أن يقول ذلك دون أن يعنيها".
نلنا الخَلاص بالإيمان وحده بشخص المَسيح وعَمَله، لكن برهان أن إيماننا حقيقي هو اِعترافنا بربوبية يسوع المَسيح، وإخلاصنا له، حتى عندما يُكلِّفنا هذا الاِعترافُ غاليًا. تألمت الكَنيسة الأولى وتعرَّض أعضاؤها للموت؛ لأنها نادت بإخلاصٍ وأمانةٍ بيسوع ربًّا، ورفضت عبادة القيصر. في هذه الأيام، يعاني المؤمنون بالمسيح السجن، والتعذيب، والموت؛ بسبب هذا الاِعتراف نفسه. حتى في العَالَم الغربي، حيث الاضطهاد الجَسَدي قليلٌ أو منعدم تمامًا، فإن المُؤمِن الحقيقي هو مَن يخضع لربوبية يسوع المَسيح، ولا يعيش وفقًا لمعايير "الْعَالَم الْحَاضِر الشِّرِّيرِ" (غلاطية ١: ٤). وهذا هو المَعنى الذي قصده الرَّسول بُولُس عندما كتب: "لأنكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الْأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ" (رومية ١٠: ٩).

يَظهر الإيمان الحقيقي بيسوعَ في الخضوع الحقيقي، والاِعتراف الصريح، بربوبيته، الذي يتعمَّق بينما ينضُج المُؤمِن، وتزداد قوته، حتى في أكثر الظروف المُعاكِسة. إن الدليل الكبير على الخَلاص هو اِستمرار الشخص في النُّضوج في ذات الإيمان والاِعتراف. كتب روبرت هالدين (١٧٦٤- ١٨٤٢) الكاتِب الإسكتلندي المَعمَداني الشهير التعليق التالي على رومية ١٠: ٩، ١٠:
"يتبرَّر الإنسان تمامًا من خلال الإيمان بسجل الله عن ابنه. لكن البرهان على أن هذا الإيمان حقيقي نجده في الاِعتراف الصريح بالفم بالرَّب في كُل شيء مشيئة الله فيه معروفة. إن الاِعتراف بالمَسيح ضروري، مِثله في ذلك مِثل الإيمان به، لكنه ضروري لغرضٍ مُختلِف. إن الإيمان ضروري للحصول على عطية البر. كما أن الاِعتراف ضروري ليُبرهِن أننا قد أخذنا هذه العطية. إن لم يعترف الإنسان بالمَسيح وسط خطر الحياة، وفي شخصيته، وملكيته، وحُرَّيته، وكل شيء غالٍ على قلبه، فإن هذا الإنسان لا يُؤمِن بالمَسيح. بقول إن الاِعتراف يتحوَّل إلى خلاص، فإن الرَّسول لا يَعني أنه سبب الخَلاص، أو أن الخَلاص بدونه سيكون غيرَ كَامِل. عندما يُؤمِن إنسانٌ في قلبه، فإنه يتبرَّر. لكن الاِعتراف بالمَسيح هو تأثير الإيمان، وسيكون برهانًا عليه في اليَوم الأخير. يَظهر الإيمان الذي يجعل الخاطئ يهتم ببر المَسيح، من خلال الاِعتراف باسم يسوع في وسط الأعداء، أو في وجه الخطر".

الاِعتراف في سِياقه التاريخيّ

كي نفَهم ما كان بُولُس يَعنيه عندما كتب عن ضرورة الاِعتراف بيسوع ربًّا، سيكونُ مُفيدًا أن نضع في الاِعتبار ما كان يَعنيه الاِعتراف لمُؤمِني الكَنيسة الأولى. تصف رسَالة بلينيوس الأصغر، حاكم بثينية، إلى الإمبراطور الروماني تراجان (٩٨- ١١٧)، بإيجاز كيف كان المُتَّهمون بأنهم مَسيحيُّون يتعرضون للاستجواب، وكيف كانت تثبت التهم المُوجَّهة إليهم، أو تُرفَض: "حصلتُ على معلوماتٍ مجهولة المصدر تحتوي على تهمٍ مُوجَّهة إلى أشخاصٍ عديدين أنكروا، عِند استجوابهم، أنهم مَسيحيون، أو أنهم كانوا يومًا مَسيحيين. وقد كَرَّروا ورائي الدعاء للآلهة، وقدَّموا شعائر دينية بالخمر والبَخور أمام تمِثالك، حتى أنهم لعنوا اسم المَسيح.... فرأيت أنه من المُناسِب إطلاق سراحهم".

يكتب بلينيوس عن كثيرين من الواضِح أنه وُجِّه إليهم، زورًا، اتهامًا، بأنهم من أتباع المَسيح. وكان دليل براءتهم أنهم دعوا (صلوا) للآلهة الرومانية، وقدَّموا العبادة للإمبراطور، ولعنوا اسم يسوع. وفعلوا عكس ما تقوله رسَالة رومية ١٠: ٩، ١٠ عن المَسيحي المُؤمِن.
على الرغم من أن محتوى رسَالة بلينيوس يُقدِّم لنا مِثالًا عن أولئك الذين كانوا أبرياء من أن يكونوا مَسيحيين، فإنه يُقدِّم لنا، أيضًا، أساسًا قويًّا ومتينًا، لنفترض منه كيف كان سيُسفر هذا السيناريو عن شيءٍ مُختلِف لو كان المتهمون بالفِعل مَسيحيين. تخيَّل أن السُّلطات الرومانية اكتشفت كَنيسة بيت صغيرة، وأحضرت مَن أُلقيَ القبضَ عليهم أمام المسؤول الروماني. وحتى يُثبتوا التهمة عليهم، أو ينفوها، يأتون بهم إلى مذبحٍ صغير، ويأمرونهم بأداء بعض الشعائر البسيطة، كأن يدعوا للآلهة الرومانية. وأن يُشاركوا في شكلٍ من أشكال عبادة الإمبراطور؛ ليُثبتوا ولاءهم لقيصر. وأخيرًا: أن يلعنوا المَسيح، سواء بإنكار ربوبيته، أو لعنه شخصيًّا. وبسبب الرُّعب الذي يُمكن أن تُعاني منه هذه المجموعة الصغيرة، يتوجَّه اثنان منهم بسرعة إلى المذبح، ويفِعلان حسب ما أمِروا به. وبينما يُطلق سراحُهم، يُجبَر شخصٌ آخر على الركوع على ركبتيه، ويُطيع أيضًا ما أمروه به، لكنه يرفض، رغم الخوف، والارتجاف من الرعب، تبجيل الآلهة الرومانية وقيصر، ويرد عليهم بأن "يسوع هو الرَّب!" وهنا يقتادونه بعيدًا بالقوة؛ لينتظر إمَّا الإعدام أو النفي. ثم يعترف واحِدٌ تلو الآخر من بقية المجموعة بالإيمان نفسه، ويُحدَّد مصيرُهم. مع أن هذا السيناريو خياليٌّ، فإن سجلات التاريخ المَسيحي تُثبِت أن عددًا لا يُحصَى من المُؤمِنين قد واجهوا مِثل هذه التجربة، وتغلَّبوا عليها، ودفعوا حياتهم ثمنًا لها. لقد أثبتت تجربتهم أنهم آمنوا بقلوبهم ونالوا الخَلاص؛ لأنهم اعترفوا بيسوع بصفته ربًّا حتى إلى الموت.

تطبيق مناسب

في ضوء المَغزى الحقيقي لرومية ١٠: ٩، ١٠، والتكلفة التي دفعها كثيرون من أتباع يسوع على مر العصور نتيجة الاِعتراف بالمَسيح حقًّا، فإن استخدام هاتين الآيتين الشائِع في الكِرازة في العصر الحديث، لا يمكن الدفاع عنه. إن الإشارة إلى هذا النَّص باعتباره الأساس الكِتابي لصلاة التوبة التي يُصليها الخاطئ، التي تأتي في خاتمة نُبذ وعِظات كِرازيَّة كثيرة، هو مغالطة تفسيرية خطيرة. لكن بسبب هذا الاِعتقاد الشائِع، يتمتع كثيرون من الرجال والنساء والأطفال غير المُؤمِنين بيقين حصين بخلاصهم الأبدي، تقريبًا غير قابل للاختراق؛ لأنهم ببساطة ذات مَرَّة في حياتهم قد أقروا ببَضعة حقائق كِتابية، وردَّدوا صلاةً نموذجية. لكن لم يحدث تغيير بعد ذلك، ولا اِستمرارٌ لعَمَل التقديس، أو رفض لهذا العَالَم، أو حتى رغبة في اتباع المَسيح. من المُناسِب أن نتساءل، نقلًا عن أسلوب بولس: "أيها الإنجيليون الأغبياء، مَن سَحَرَكم؟"
تُعَلِّمنا رومية ١٠: ٦- ١٠ أننا نخلُص بالإيمان وحده. لا ينال المَسيحيون الخَلاص ببَعض الأعمال البطولية، أو المُحاولات المُضنية، بل يحصلون عليه بالإيمان بشخص المَسيح، وعَمَله. إن أولئك الذين يُؤمِنون حقًّا بالمَسيح قد توقفوا عن أية محاولة وكل مُحاولَة تسعى لإثبات بِرِّهم الذاتي. فقد اتكلوا على المَسيح، وفضيلته واستحقاقه.
مع ذلك، هذا الإيمان في المَسيح ليس مؤقتًا، أو ساكنًا، أو مستحيلًا كشفُه وملاحظته، لكنه مُثابِر وديناميكي وواضِح. وهذا مضمون؛ لأن الخَلاص هو عَمَل الله لمَجْد الله. فالذي وضع الإيمان المُخلِّص أولًا في قلب المُؤمِن، سيحرص أن يُثابر هذا الإيمان ، ويتعمَّق، ويظهر بوضوح. وواحِدٌ من مظاهره الواضِحة هو الاِعتراف بربوبية يسوع المَسيح بالقول والفِعل، بغض النظر عن التكلفة!

كيف، إذن، ينبغي استخدام هذه الآيات وتطبيقها؟ ينبغي أن تكون للمُؤمِن مصدرًا للتعزية والتحذير المُستمِرَّيْن. ستكون مصدرًا للتعزية؛ لأننا نلنا الخَلاص بالنِّعمة وحدها من خلال الإيمان وحده. إن كوننا مبرَّرين أمام الله ليس نتيجة مجهوداتنا الشاقة، أو أعمالنا العظيمة، بل بالأحرى نتيجة العَمَل العظيم والإنجاز الهائل للمَسيح في الجُلجثة. يتمثَّل التحذير في أن واحِدًا من البراهين الرئيسة على الإيمان المُخلِّص والاهتداء الحقيقي هو واقع رَبوبية المَسيح المُتَنَامية في حياتنا، ورغبتنا في تبعيته، مهما كلَّفنا الأمر. وفيما يتعلَّق بالكِرازة، وتعَامُلنا مع الباحث عن الإيمان، ينبغي استخدام هذه الآيات بطريقة ثلاثية.
أولًا: ينبغي استخدامُها لنُثبِت للباحِث عن الله عدم جدوى الأعمال، وننصحه بأن يضع جانبًا كُل رجاء في نوال الخَلاص من خلال الفضيلة أو الاستحقاق الشخصي.
ثانيًا: ينبغي استخدامُها لتشجيع الشخص للنظر إلى المَسيح وحده، والإيمان بأن فيه الخَلاص.
ثالثًا: ينبغي على الباحث عن الإيمان أن يستخدمها كاختبار حاسِم ومُستمِر لحقيقة اِعترافه وصِدقِه. وينبغي أن يعرف أنه إن آمن بحق، فإن ربوبية يسوع المَسيح ستُصبِح حقيقة مُتزايدة في حياته. وعلى الرغم من أنه سيمُر بصراعاتٍ كبيرة، ويُعاني من حالات فشل كثيرة في إيمانه وتقواه، واِعترافه طوال حياته، فإن هويته وهدفه سيزدادان ارتباطًا بسيادة المَسيح عليه.

لقراءة المقال باللغة الإنجليزية:
https://heartcrymissionary.com/theological-forum/believe-and-confess/
مشاركة المقالة
عن الكاتب
پول واشر

خدم پول واشر كمرسل في پيرو مدّة عشر سنوات، والتي أسَّس خلالها جمعية هارت كراي الإرسالية لدعم زارعي الكنائس في الپيرو. يخدم پول حاليًّا كأحد العاملين في جمعية هارت كراي لدى پول وزوجته كارو ثلاثة أبناء: إيان، وإيڤان، وروان.

المزيد من المقالات