يبدو من المناسب تمامًا في أية مناقشة عن الإرسالية أن نبدأ بتعريفٍ صحيحٍ للإرسالية العظمى. والمسألة ليست غير ضرورية بقدر ما يُظن. فمن الصعب جدًا أن يطيع المرءُأمرًا إن لم يفهمه أو يفهم كيفية تنفيذه. علاوة على ذلك، فإن مرسَلين كثيرين أعطوا حياتهم كلها من أجل تحقيق الإرسالية العظمى من دون أن يفهموها فهمًا كتابيًا. لذلك سننظر فيما يلي في ست حقائق، ثم نضع تعريفًا لها.
بدايةً، ليست الإرسالية العظمى هي الوصية العظمى، لكنها نابعة منها. فالوصية العظمى أوصانا بها ربُّنا لنحب الربَّ إلهنا من كل قلبنا، ونفسنا، وفكرنا، وقوَّتنا. والوصية الثانية مثلها: أن نحب قريبنا كأنفسنا (متى 22: 37-39). من ثم، الإرسالية العظمى هي تعب المحبة. نحن المؤمنين ينبغي لنا أن نحب الله ونرغب في أن يتعظَّم اسمه بين الأمم. ينبغي لنا أن نحب المسيح ونرغب في أن ينال المكافأة الكاملة على آلامه. ينبغي لنا أن نحب إخوتنا البشر، وأن تُحرِّك آلامُهم عواطفَنا، ونرغب في خلاصهم.
الأمر الثاني هو أن الإرسالية العظمى لا تتعلق بالذهاب، بل تتعلق بالمناداة بإنجيل يسوع المسيح لجميع الناس، وتعليم من يؤمنون أن يسلكوا في
طاعة وصايا المسيح. أشهر المقاطع الكتابية وأكثرها اكتمالًا فيما يختص بالإرسالية العظمى في العهد الجديد نجده في متى 28: 19-20:
«فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ.وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ.»
من المهم أن نلاحظ أن العبارة "تلمذوا" هي الوصية الوحيدة في هذا النص، في حين أن كلمة "اذهبوا" تُرجمت من اسم فاعل بهدف أن توضِّحَ جانبًا واحدًا للطريقة التي يجب بها أن تنفَّذ الوصية. لا بد أن نذهب، ولكن لا بد أن نذهب بغرضٍ سليم. وفي الواقع، لا داعي لذهابنا ما لم يكن هدفه التلمذة من خلال تعليم الكتاب المقدس.
بغض النظر عن الغيرة والتضحية التي دفعتنا إلى حقل الخدمة أو التي تبقينا هناك، فإن خدمتنا سيثبت أنها مجرد قش، أو خشب، أو تبن ما لم نجاهد لتحقيق المهمة التي أُرسِلنا من أجلها، ألا وهي التلمذة.
الأمر الثالث هو أن الإرسالية العظمى تتعلق بتعليم الناس أن يحفظوا كل ما أَوْصَى المسيح به. الإرسالية العظمى هي في المقام الأول مسعى لاهوتي وتعليمي. بعبارة أخرى، إنها تتعلق بتعليم الناس عن شخص الله ومشيئته. من أجل هذا، لا نبالغ إن قلنا إنه لو كان هناك جانب واحد له المكانة الأولى ولا غنى عنه للإرسالية، فهو مهمة تعليم الإنجيل وكل مشورة الله للذين لم يسمعوهما من قبل. لا تتعلق الإرساليات بإرسال مرسَلين، بل بإرسال حق الله من خلال مرسَلين مُزَكِّين، أي مصدَّق عليهم، من الله كعاملين ليس فيهم ما يخجلون منه، يفسِّرون كلمة الحق تفسيرًا دقيقًا.
الأمر الرابع، ليست الإرسالية العظمى محدودة بتلمذة تلاميذ أفراد بل وتتضمن إحضار كل مؤمن إلى علاقة تكاتف وارتباط متبادل مع آخرين في سياق الكنيسة المحلية. من المحتمل أن يكون معظم من يقرأون هذا المقال متأثِّرين إلى حد كبير بمذهب الفردية الذي يميِّز الثقافة الغربية. لذلك، علينا أن نحرص أن نلاحظ أنه على الرغم من أن المسيحية تُقدِّر وتسعى إلى التأكيد على تفرُّد المؤمن الفرد، هي ديانة مجتمعية. إن المرسَل مدعو ليس فقط إلى "تلمذة" آخرين بل وأيضًا إلى عمل "جماعات" من التلاميذ يحبون ويخدمون بعضهم بعضًا وفقًا لمعيار الكتاب المقدس. قال يسوع:«بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ»(يوحنا 13: 35).لا يمكن أن تتحقق هذه العلاقة المستديمة إلا في سياق الكنيسة المحلية.
الأمر الخامس، نحن نعيش في عصر وسائل الإعلام، والإنترنت، والفضاء الإلكتروني. وخلال السنوات القليلة الماضية، أثبتت العديد من خطوات التقدم في التكنولوجيا فائدتها لنشر الإنجيل، وبخاصة في المناطق التي كانت غالبًا محظور ارتيادها. ولكن، الحكمة المحفورة على لوح الكتاب المقدس تقول إن هذه الوسائل لن تحل أبدًا محل ذهاب المرسَل بدمه ولحمه. بعبارة أخرى، لا يمكننا تتميم الإرسالية العظمى عبر الإنترنت! إن الإرساليات الكتابية هي تجسيدية، أي أنها تتعلق بإرسال أُناسٍ إلى أُناسٍ. عندما أراد الله التواصل مع البشرية، لم يكتب لهم الإنجيل في السماء ولم يرسِل رؤساء ملائكة ليحملوه إلى كل زاوية من زوايا الكون. ما فعله هو أنه اتخذ جسدًا وصار بشرًا. و هو يرسِلنا الآن بطريقة مشابهة: دم ولحم إلى دم ولحم.
الأمر السادس والأخير هو أن الإرسالية العظمى لا تتعلق فقط بالذهاب بحسب مشيئة الله، بل وأيضًا بالبقاء في مشيئة الله. من الواضح أنه ليس كل مؤمن مدعو أو مطالَب بالذهاب إلى حقل خدمة في بلاد أجنبية ليكون مرسلًا متفرِّغًا تمامًا. البعض مدعوون للبقاء! أقولها وأرجو ألا أكون مبالغًا في التبسيط، إن الإرسالية العظمى يمكن تقسيمها إلى مهمتين منفصلتين: كل مؤمن مدعو إلى النزول إلى المنجم أو إلى الإمساك بالحبل من أجل أولئك الذين نزلوا (ويليام كاري).
على المؤمن إما الذهاب إلى حقل الإرسالية أو البقاء في البيت ودعم الذين ذهبوا. ولكن، بغض النظر عن الدعوة، على كل مؤمن أن يُظهر إخلاصًا مساويًا للإرسالية العظمى ويكون مستعدًا لأن يقاسي الخسارة نفسها. إن من يُمسك بالحبل وهو فوق المنجم ومن تعلَّق بالحبل داخل المنجم يقاسيان كلاهما آثار الجراح نفسها على أيديهما.
ما هي الإرسالية العظمى؟ إنها وصية الرب يسوع المسيح للكنيسة بالكرازة بالإنجيل لكل شخص في العالم، وتعليم كل مشورة الله لمن يؤمنون، وتأسيس كنائس بحسب تلك المشورة.وما الوسائل الأوَّلية لتتميم هذه المهمة؟ إرسال المرسَلين وذهابهم!
لقراءة المقال باللغة الإنجليزية:
https://heartcrymissionary.com/theological-forum/understanding-the-great-commission/