الطريق الضيق والطريق الرحب

التاريخ

١٣ مايو ٢٠٢٠

الموضوع

الوعظ

الكاتب

پول واشر

المصدر

"اُدْخُلُوا مِنَ الْبَاب الضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!"
(متى 7: 13-14)

لم يصف متى 7: 13-14 بابًا فقط، لكنه وَصَفَ طريقًا أيضًا، وقد كان الباب والطريق كلاهما صغيرين وضَيِّقَين. نَفهم من هذا أن الاهتداء، لا يعرَّف بأنه مجرَّد باب يدخل منه الإنسان، لكنه أيضًا طريقٌ يسير فيه. وحين نُجري استطلاعًا للكرازة الإنجيليَّة المعاصرة، يبدو لنا أن ما يُقدَّم فيها هو فقط نصف الحقيقة.
بنعمة الله، لا تزال غالبية العالم الإنجيلي متمسِّكة بالحق القائل إن يسوع هو المخلِّص الوحيد والوسيط الواحد بين الله والناس. كما نحمد الله على أنَّ الغالبية لا تزال راسخة على عقيدتي "سولا جراتيا" [sola gratia]، و"سولا فيدا" [sola fide]، أي الخلاص بالنعمة وحدها وبواسطة الإيمان وحده. ولكن، مع أنَّ قدرًا كبيرًا من الكرازة يدور حول كيفية دخول الملكوت، إلا أنها لا يُذكَر فيها الكثير عن البراهين التي تُثبت دخوله بالفعل. فإننا ندخُل الملكوت بالعبور من الباب الضيق، لكنَّ برهان دخولنا من هذا الباب هو أننا الآن سائرون في الطريق الضيق. نحن لا نتبرَّر إلا بالإيمان بشخص المسيح وعمله؛ ولكن برهان تبريرنا هو تقديسنا المستمر. فإن الباب الضيق والطريق الضيق متلازمان دون انفصال، ومَن يدخل من الباب سيجد أنَّ الطريق يحدِّد شكل حياته.

تعريف الطريق الضيِّق

كلمة "الطَّرِيق" مترجَمة من الكلمة اليونانية hodós، التي تعني حرفيًّا طريقًا عاديًّا أو طريق ارتحال. وتشير الكلمة على نحو مجازي إلى نمط حياة، أو مسار سلوك، أو طريقة تفكير. استُخدمت الكلمة ست مرات في سفر أعمال الرسل كمرادفٍ للمسيحية. ولذلك، سرعان ما نكتشف أن الإيمان المسيحي يتعدَّى كونه قرارًا بقبول المسيح اتُّخِذَ في الماضي، بل هو إيمان مستمر، يغيِّر من مسار حياة الإنسان.

تأتي كلمة "ضَيِّق" من الفعل اليوناني thlíbo، الذي يعني يضغط أو يسحق؛ كما يكبس أو يعصر عاملُ الكَرْم العنب، أو كما يتدافع حشدٌ من البشر. وبالمعنى السلبي، تعني الكلمة "يختبر ضيقًا، أو كربًا، أو بلية". تشير الكلمة إذن، حال دمجها مع الكلمة hodós، إلى طريق مضغوط، أو محصور، أو ضيِّق. وقد أوضح العديد من الكُتَّاب والكارزين معنى هذه الصورة البلاغية من خلال رسم صورة لممر ضيق، حيث لا يستطيع الناس أن يسيروا فيه سوى في صفٍّ مكوَّنٍ من شخص واحد. وعلى جانبي الممر، توجد أسوار عالية من الصخور الضخمة شديدة التحدُّر. ويبدو أن الطبيعة المحصورة للممر تشير إلى حقيقتين مهمتين بشأن طبيعة الحياة المسيحية: هي طريق ترسمه وتحدِّده مشيئة الله؛ وطريق يلاقي فيه الإنسان المقاومة، والكرب، والصراع الشديد.

طريق ترسمه وتحدِّده مشيئة الله

مَن يسلكون هذا الطريق محاطون حتى لا يتجولوا بعيدًا. فالمفديون لن يسيروا فيه بلا هدف أو عشوائيًّا، فمسارهم مُحدد بمشيئة الله وعنايته الإلهية. فالإنسان الذي اهتدى حقًا قد أصبح خليقة جديدة لها مشاعر جديدة. فأصبح يريد أن يعمل مشيئة الله ولم تعد هذه المشيئة عبئًا عليه. كما أنه أصبح موضع العناية الإلهية التي ستُعلمه وتقويه وترشده وتؤدبه. فهو سيتعلم من الله، وسيهبه الله القوة في إنسانه الداخلي، ويقوده في الطريق الذي يجب أن يسلكه ويؤدِّبه حين يشرد. فأولئك الذين دخلوا من الباب الضيق سيسيروا في الطريق الضيق. فطبيعة خلاص الله وعنايته الإلهية ستحقق ذلك.

تعد فكرة وجود طريق رَسَمَه الله ليسلك فيه شعبه فكرة شائعة ومألوفة في جميع أسفار العهد القديم. ويشار إليه في هذه الأسفار باسم طريق الرب، وطريق الأبرار*. هذا الطريق ترسمه وتحدده وصايا الله، وهو المعيار الفاصل الأكبر للإيمان الحقيقي. في سفر المزامير، نكتشف أن طريق الرب وطريق الأبرار مرادفان لطريق وصايا الله، وفرائضه، وشهاداته. بالإضافة إلى ذلك، هذا الطريق متهدِّم ومستهلَك من كثرة الاستخدام، ومطوَّق من كلا الجانبين. وقد صار عميقًا من جراء العدد الذي لا حصرَ له من القديسين الذين وطأته أقدامهم منذ بداية تعاملات الله مع الجنس البشري. في المزمور الثالث والعشرين، افتخر داود بهداية الله له إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ. تُرجمت كلمة "سُبُل" عن الكلمة العبرية ma’gal، التي تعني خندقًا، أو منخفضًا طويلًا، وعميقًا، وضيقًا في الأرض.

توجد حقيقة أخرى مهمة عن الطريق الضيق، وهي أن علاماته تزداد وضوحًا أكثر فأكثر فيما يرتحل القديس عليه. يعلِّمنا سفر الأمثال بأن سَبِيل الصِّدِّيقِينَ هو كَنُورٍ مُشْرِق، يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إِلَى النَّهَارِ الْكَامِلِ. حين يبدأ المؤمنُ حديث الإيمان وضعَ قدميه لأول مرة على الطريق، يُصادِف عادةً صعوبةً في تمييز الطريق. ولكن، حين يواصل المسير، يصير التمييز أسهل. فمن خلال تجديد ذهنه، يبدأ يدرك إرادة الله "الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ" (رومية 12: 2). يخبرنا كاتب رسالة العبرانيين بأن المؤمن حديث الإيمان الذي لا يتناول سوى اللبن، هو عَدِيمُ الْخِبْرَةِ فِي كَلاَمِ الْبِرِّ لأَنَّهُ طِفْلٌ. لكن متى بدأ النضوج، يتطلَّع إلى طعام أقوى، وبالتمرُّن تصير حواسه مدرَّبة على التمييز بين الخير والشر.

لا يقود الله شعبه في طريق البر من أجل خيرهم فحسب، بل من أجل اسمه أيضًا.فالهدف النهائي من الخلاص هو إظهار كمالات الله. فقد قرر أن يُظهر أو يثبت شخصه وقوته من خلال الفداء وتغيير شعب. إن فشل عمل الخلاص هذا ولو جزئيًا فهذا سيعيب ويهين اسم الله. نفهم من الكتاب المقدس أن الله قد صمم تبرير المؤمن وتقديسه حتى يكون اسم الله اسم للبهجة والتسبيح والمجد أمام جميع أمم الأرض. فهو لن يشين عرش مجده بترك عمله يفشل.

ترسم إرادة الله، كما هي معلَنة في وصاياه، وفرائضه، وشهاداته، وأحكامه، الطريق الضيق. ولكن، علينا أن نحرص على أن نفهم كل هذا داخل سياق شخص يسوع المسيح؛ فقد قال يسوع لتلاميذه إنه هو نفسه الطريق والحق والحياة، وليس أحد يأتي إلى الآب إلا به. لذلك، علينا أن نتذكَّر باستمرار أننا في هذا الطريق الضيق نتبع شخصًا، وليس مجرد قواعد سلوكية أو دليل إرشادي إجرائي للحياة. فإن التصريحات الثابتة بشأن ما هو حق قطعًا ضرورية للمسيحية؛ وقد وُضعت لنا شرائع، ومبادئ، وأحكام عظيمة كي نطيعها. ولكن، ليست هذه هي مجمل الإيمان المسيحي؛ وإن نظرنا إليها خارج سياق المسيح، فإنها قد تنحدر بنا في طريقٍ خطرٍ من الناموسية والبر الذاتي. نحن المؤمنين نتبع خطى شخصٍ، ونسعى إلى التمثُّل به. إن الحقائق التي يقدِّمها الكتاب المقدس، في صورة تصريحات، لها قيمة عظمى، تكمُن في كونها تفسِّر وتوضِّح لنا من هو المسيح، وكيف لنا أن نتبعه؛ لكنها ليست غاية في حد ذاتها، ولا يمكن فصلها البتة عن المسيح وإلا تَسبَّبنا في ضرر بالغٍ للمسيحية وللمؤمن. يتلخَّص جوهر هذا التحذير بوضوح في الكلمات التي وجَّهها المسيح لمن عاشوا في أيامه، ممَّن اختزلوا إيمان إسرائيل إلى قواعد سلوكية فارغة، إذ قال لهم: "فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي. وَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ" (يوحنا 5: 39-40). لا يمكن فصل المسيح عن تعاليم الكتاب المقدس ووصاياه، لكن أيضًا لا يمكن فصل هذه الوصايا عن شخص المسيح.

طريق تُميِّزه المشقة والكرب

لقد عرفنا أن إرادة الله ترسم وتحدِّد الطريق الضيق. والآن سنلتفت إلى حقيقة أخرى مساوية لها في الأهمية: الطريق الضيق هو طريق تميزه المشقة والكرب والصراع. فهو ليس طريقًا سهلًا!
كما ذكرنا قبلًا، تأتي كلمة "ضَيِّق" من فعل يوناني معناه، إذا جاء مبنيًّا للمجهول، اختبار الضيق، أو الكرب، أو البلية. إن مجرد قراءة سطحية للعهد الجديد تكشف لنا أن الحياة المسيحية تتَّسم بهذه الاختبارات. فإن كان يلزم جهادٌ أو عنف مقدَّس لدخول المسيحية، فلا يسعنا سوى افتراض أن جهادًا مساويًا، إن لم يكن أشد، لازمٌ للبقاء فيها. كلُّ من يكرز بأي شيء نقيض هذا ليس خادمًا حقيقيًّا للمسيح، بل هو دجَّال يروِّج لبضاعته.

كانت إحدى السمات الكبرى التي ميزت الكنيسة الأولى بجانب رسالة الإنجيل وفضيلتها، هي الكروب والبلايا التي قاستها. وقد سبق المسيح وكتبة العهد الجديد فحذَّروا بصورةٍ متكررةٍ كلًّا من طالبي الخلاص والمؤمنين بأن التلمذة الحقيقية ستعقبها بليةٌ شديدةٌ. كما حذَّر يسوعُ تلاميذَه من أنَّ العالم سيبغضهم، ومن أنهم سيقاسون ضيقًا شديدًا من جراء هذه البغضة؛ وسيُطرَدون، ويعيَّرون، ويُفترى عليهم؛ ويطارَدون، ويُحكَم عليهم، ويُقتَلون أمام ملوك وولاة لأجل اسمه. كما علَّم الرسول بولس الشاب تيموثاوس بأن "جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِالتَّقْوَى فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ" (2 تيموثاوس 3: 12). ولكنيسة فيلبي، كتب بولس أنه قد وُهب لهم لا أن يؤمنوا بالمسيح فقط بل أيضًا أن يتألموا لأجله؛ كما أنه وعظ التلاميذَ في لسترة، وأيقونية، وأنطاكية قائلًا: "أَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ" (أعمال 14: 22). أيضًا علَّم الرسول بطرس المؤمنين الذين كانوا في الشتات في جميع أنحاء أسيَّا بأن تألُّمهم كان بحسب مشيئة الله، موصيًا إياهم ألا يستغربوا البلوى المحرقة، وكأنه أصابهم أمرٌ غريبٌ. بل في حقيقة الأمر، أخبرهم بأن هذه الآلام نفسها هي بطبيعة الحال سُنَّة حياة المؤمنين والكنائس في جميع أنحاء العالم.

ومن الكتاب المقدس، نفهم أن طريق المؤمن ضَيِّقٌ ومليءٌ بالبلايا والضيقات؛ لكنَّ هذه التجارب ليست عشوائيةً، دون هدف. بل إن الله يقضي بآلامنا بغرض تنقيتنا، وتغييرنا، لنكون مشابهين صورة ابنه. فمن خلال تجارب هذا العالم المحرِقة، تتبرهن أصالةُ إيماننا، ويتنقَّى هذا الإيمان ويتزكَّى إلى درجات أكبر وأكبر من النقاء، إلى أن يصير ثمينًا كالذهب. علاوةً على ذلك، تؤدي التجارب والضيقات المتنوعة التي نلاقيها في الطريق الضَيِّق إلى درجات أكبر من الفضيلة المسيحية؛ كما كتب الرسول بولس: "بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً" (رومية 5: 3-4). أيضًا أوصى يعقوب المؤمنين المتألمين بأن يحسبوه كل فرح حينما يقعون في تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إيمانهم يُنْشِئُ صَبْرًا، يؤدي إلى مزيدٍ من القداسة والنضج.

في خضم الألم، يُطمئن هذا الحقُّ المؤمنَ: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ" (رومية 8: 28). ولهذا، يبتهج المؤمن، مع أنه يجب الآن أن يحزن يسيرًا بتجارب متنوعة. فهو عالم أن آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فيه.
إن حقيقة أننا عمل الله، وأن من ابتدأ عملًا صالحًا فينا سيكمله، هي حقيقة مُعزية، لكنها مزعجة في الآن ذاته؛ فإننا نتعزَّى حين نعلم أننا لن نظل كما نحن، ولكن ينتابنا الخوفُ أحيانًا حين نفكر في النيران التي لا بد أن نعبر خلالها في الطريق الضيق حتى نتخلص مما لن يحتمل اللهُ وجودَه فينا. لم يأتِ المسيا فقط كي يكون موضع سرور خاصته، بل أيضًا كي يكون نَار الْمُمَحِّصِ، وأَشْنَان الْقَصَّارِ*. فَهو يَجْلِسُ مُمَحِّصًا وَمُنَقِّيًا لِلْفِضَّةِ، فَيُنَقِّي بَنِي لاَوِي وَيُصَفِّيهِمْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِيَكُونُوا مُقَرَّبِينَ لِلرَّبِّ، تَقْدِمَةً بِالْبِرِّ. فإنَّ عمل التنقية الذي يُجريه الله وسط شعبه هو من الشدة بحيث إن النبي الذي تنبأ عن مجيئه طرح هذا السؤال: "وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ؟ وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟" (ملاخي 3: 1). أحد الوعود العظمى لنبوات العهد القديم هو أن المسيا سيطهِّر شعبه من كل نجاستهم وأصنامهم. لكن لن يُجرَى هذا التطهير دائمًا من خلال غسل رقيق ومترفق، بل عادة من خلال الحَك والجَلد. ولهذا، قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين:
"وَقَدْ نَسِيتُمُ الْوَعْظَ الَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ:
يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ،
وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ.
لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ،
وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ" (عبرانيين 12: 5-6)
وكي ندرك الصرامة التي قد يتعامل بها الرب مع بنيه في الطريق الضيق، يلزمنا أن نسلِّط انتباهنا على هذه الكلمات الثلاث التي وردت في عبرانيين 12: 5-6 "يوبِّخ"، و"يؤدِّب"، و"يجلد". تُرجم الفعل "يوبِّخ" من الكلمة اليونانية elégcho، التي تعني يبكِّت على خطأ أو ذنب من خلال تسليط الضوء عليه أو فضحه؛ كما تفترِض بوجه عام جلب الخزي على الشخص الذي يُبكَّت. تعني الكلمة أيضًا توجيه اللوم بقسوة، أو التعنيف، أو التأديب، أو المعاقبة. أما الفعل "يؤدِّب"، فهو مترجَم من الكلمة اليونانية paideúo، التي تشير إلى توجيه الأبناء وتدريبهم. وعادةً ما تشمل، كما في هذا السياق، فكرة التأديب والمعاقبة من خلال التوبيخات، والإنذارات، والجَلد. الكلمة "يَجْلِد" مُترجَمة من الفعل اليوناني mastigóo، التي تعني يضرب أو يجلد بالسوط. تبدو هذه اللهجةُ قاسيةً بشكلٍ زائدٍ عن الحد، بل لا أخلاقية أيضًا على أُذُنَي الإنجيلية المعاصرة ذات الحساسية الزائدة عن الحد. ومع ذلك، فهي لهجةٌ كتابيةٌ، وحقيقةٌ واقعيةٌ يعلَمها جيدًا كلُّ من سار مسافة طويلة بما يكفي في الطريق الضيق. في حقيقة الأمر، واحدٌ من أعظم الدروس التي يتعلمها أي سائح حقيقي في الطريق الضيق هو أن الله سيبذُل أقصى ما يمكن، ولن يبخَل بشيء كي يقدِّس أبناءه. فهو يحبُّهم ولا يبغضهم، ولهذا لن يمنع عنهم العصا، بل سيجتهد في تأديبهم كي يُنقذ نفوسهم من الهاوية.

بالإيمان، يخضع المؤمن لعمل التأديب الإلهي هذا، بل ويبذُل ظهرَه للعصا. ومع أنَّ التأديب يُرى في الحاضر أنه للحزن، بل وللألم، لكن يعلَم المؤمن أنه سيصنَع فيما بعد ثمرَ برٍّ للسلام، كما يقول كاتبُ الرسالة إلى العبرانيين: "وَلكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَمِ" (عب 12: 11). علاوةً على ذلك، يعلَم المؤمن أنه سواء جاء الجَلْدُ من يد الله مباشرةً، أو من أداة أدنى منه كالشيطان أو العالم، فإن الكلَّ معيَّن من الله، والكلَّ موجَّه من مشيئته كلية الحكمة وكلية القدرة. يعرض لنا صمويل شادويك Samuel Chadwick بشكل رائع مثالًا توضيحيًّا في ملاحظته التي أدلى بها عن حدَّاد في أثناء عمله:
"يمسك الحدَّاد بقطعة المعدن المتوهجة، ويلفُّها لئلا تسقط الضربة بصورة مفرطة فوق البقعة نفسها، موجِّهًا إليها الضربات بحيث تقع في اللحظة المناسبة؛ ثم يلف القطعة، ويسقيها*، ضابطًا الضربات إلى أن تتشكَّل قطعة المعدن بحسب الشكل المطلوب. هكذا أيضًا يمسك الله بالنفس، ويضبط الضربات التي يوجهها لها. أحيانًا يستخدم الله الشيطان ليكون هو الطارق بمطرقته. يضرب إبليس ليسحق، لكن الله يتحكم في الضربة، محوِّلًا خبث إبليس وشرَّه إلى تكميلٍ لنا. وبهذا، يتعرَّق إبليس متمِّمًا مهمة تشكيل القديسين إلى صورة المسيح. وفي نهاية الزمان، سنكتشف أن كلَّ تأديبات الحياة قد عملت معًا بالنعمة، وأننا صرنا كاملين في اتحادٍ بابن الله الآب. حينئذٍ سيتحقق القصدُ المجيدُ، وسنصير مثله: "أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ".

وبما أنَّ قصد الله هو خير شعبه ومنفعتهم، فإننا نسعى إلى السير في الطريق الضيق، والبقاء داخل حدود أمان وبركة مشيئته المعلَنة في وصاياه وحكمته. كما نسعَى أيضًا إلى تتميم خلاصنا بخوف ورعدة، عالمين أنَّ الله هو العامل فينا أن نريد وأن نعمل من أجل المسرة. فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِيدُ نروِّض أنفسنا للتقوى؛ ونطهِّر ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ؛ متَّبعين القداسة الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ؛ مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ. إن كان الله يبذل كل ما يمكن، ولا يبخل بشيء حتى يغيِّرنا إلى صورة المسيح، فلا بدَّ لنا أن نجاهد بالجدِّية نفسها لننال هذه الجعالة العظمى. في هذا الطريق الضيق، علينا أن ننسَى ما هو وراء، ونمتد إلى ما هو قدام، نسعى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.

تعريف الطريق الرحب

تأتي الصفة "رَحبٌ" من الكلمة اليونانية eurúchoros، التي تشير إلى شيء فسيح، أو واسع، أو عريض، أو متَّسع. وفي سياق تعليم المسيح، "الطريق الرحب" هو طريق البشر الساقطين والمتمردين، الذين رفضوا أو تجاهلوا حقَّ الله عليهم، وطرحوا عنهم ناموسه، وطلبوا وجودًا مستقلًّا، وحُكمًا ذاتيًّا. توجد العديد من الملاحظات التي يلزم أن نذكرها بشأن الطريق الرحب، والباب الواسع الذي يؤدِّي إليه.

أولًا، الطريق الرحب هو الطريق الذي يسير فيه الإنسان بالطبيعة؛ فهو طريقٌ يولد عليه كل عضو في العائلة البشرية الساقطة. قال كاتب المزمور إن الأشرار زائغون من الرحم، وضالون من البطن. وصرخ إشعياء النبي قائلًا إننا "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ" (إش 53: 6). لا يحتاج الإنسان إلى شيء، ولا يَلزمه فعل شيء لإيجاد الباب الواسع، أو لدخول الطريق الرحب. هذا هو الطريق التي بنَى عليه آدم بيته، وصار ميراث أبنائه. فبمجرد ولادتنا، نجد هذا الطريق بغرائزنا الساقطة، وبمجرد إيجاده، نكتشف أنه يلائم طبيعتنا. لا يلزم أيُّ جهاد لدخوله، أو للاستمرار فيه، لكن في المقابل يلزمنا أن نبذل كلَّ طاقتنا للخروج منه. ولهذا، يحث المسيح البشر على الاجتهاد بأقصى ما لديهم من عنف للخروج من الطريق الرحب المؤدي إلى الهلاك، والدخول من الباب الضيق المؤدي إلى الحياة.

ثانيًا، الطريق الرحب هو طريق الاستقلال والحكم الذاتي، حيث يتَّخذ سكان هذا العالم موقفًا عدائيًّا ضد الرب ومسيحه، قائلين: "لِنَقْطَعْ قُيُودَهُمَا، وَلْنَطْرَحْ عَنَّا رُبُطَهُمَا" (مزمور 2: 3)، وفيه يسعى كل واحد إلى عمل ما يَحسُن في عينيه. مَن يختارون الطريق الرحب يفتخرون بتحريرهم لأنفسهم من طاغية السماء، لكنَّهم بهذا قد أخضعوا أنفسهم لطغيان قلوبهم الفاسدة. فقد قايضوا مَلكًا سماويًّا بستة مليارات من الغاصبين عديمي القيمة، الذين آراؤهم عن الحق مبهَمة كضباب الصباح، وكثيرة كنجوم السماء. كما قايضوا الناموس الإلهي بتسلُّط شهواتهم عليهم، فصاروا جامحين، يركُضون مسرعين دون تردُّد نحو الهلاك. فبلا رؤيا أو إعلان الناموس يجمح الشعب، والطريق التي تبدو لهم مستقيمة دائمًا ما تكون عاقبتها الموت. فقد استبعدوا الله من معادلة الحياة، وجعلوا الحق المطلق أمرًا مستحيلًا. لهذا طريق الأشرار رحبٌ، إذ بدون بوصلة أدبية، يُحكَم على البشر بأن يهيموا على وجوههم، دون قصد وعلى غير هدى. وبحسب اللهجة المفزِعة لرسالة يهوذا، مَن يرفضون سيادة الله ويفضِّلون عليها سيادتهم على أنفسهم يصيرون غُيُومًا بِلاَ مَاءٍ تَحْمِلُهَا الرِّيَاحُ، أَمْوَاجُ بَحْرٍ هَائِجَةٌ مُزْبِدَةٌ بِخِزْيِهِمْ. نُجُومٌ تَائِهَةٌ مَحْفُوظٌ لَهَا قَتَامُ الظَّلاَمِ إِلَى الأَبَدِ.

على الرغم من كون هذه اللهجة قاتمة ومُنذرة بسوء، لكنها تنطبق على عضو الكنيسة، كما على الملحد والرافض للمسيحية. يجلس كثيرون في كنائسنا وكأنهم مناصرون للمسيحية ومعترفون بها، ومع ذلك يسلكون في الطريق الرحب. فهم لا يسعون إلى معرفة إرادة الله، ولا يتوقون إلى وصاياه، ولا يبحثون عن علامات وإرشادات عنايته، ولا يسلُكون بالتدقيق. وما يثير المزيد من الإزعاج هو قدرتهم على الجلوس مستريحين دون اضطراب في العديد من الكنائس الإنجيلية، ودون أن ينتابهم أدنى قلق من جراء استماعهم إلى الكثير من الكرازة الإنجيلية. إنهم يقدِّمون كل ادعاء ممكن على انتمائهم للملكوت، لكن سياحتهم المتواصلة في الطريق الرحب تُثبِت خطأ ادعائهم هذا.
ثالثًا، الطريق الرحب هو طريق إشباع الذات؛ فهو طريقٌ يسير فيه جميع من يريدون أن يفضِّلوا ذواتهم على الله، وهذا الدهر على الدهر الآتي، والشيء الزمني الفوري على الشيء الأبدي، والجسدي على الروحي. فهو طريق تلبية كل رغبة جسدية، وكلِّ تطلُّع للجسد الساقط. يخبرنا الكتاب المقدس بأن البشر هم بالطبيعة محبّون لأنفسهم، ومحبّون للمال، ومحبّون لهذا العالم، ومُحِبُّونَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ للهِ. جميع هذه الأشياء موجودة في الطريق الرحب، ومن يسيرون فيه تدفعهم "شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ" (1 يوحنا 2: 16). ولهذا، يمكننا وصف الطريق الرحب بأنه "سوق أباطيل" متواصل، شبيه بذلك السوق الذي يصوِّره لنا كتاب "سياحة المسيحي" لكاتبه جون بنيان:
"ورأيتُ أنهما [ المسيحي والأمين] بعدما قطعا تلك القفار، أقبلا على مدينة يقال لها "البُطل"، وفي المدينة سوق يُعرَف "بسوق الأباطيل"، الذي يَعرض بضائعه كل أيام السنة. وله هذا الاسم "سوق الأباطيل" لأن المدينة التي يتبعها كلها بُطل، ولأن كل ما يُباع هناك وكل ما يأتي من الخارج هو باطل، وذلك بشهادة الحكيم: "كُلُّ مَا يَأْتِي بَاطِلٌ".

وهذه السوق ليست حديثة العهد، ولكنها موجودة من قديم الزمن. فمنذ ستة آلاف سنة تقريبًا كان هناك سياح في طريقهم إلى المدينة السماوية، مثل هذين الشخصين الأمينين؛ ولما علم بعلزبول، وأبوليون، ولجئون وأجنادهم أن طريق السياح الذي يؤدي إلى المدينة السماوية يمر بمدينة البُطل، قرروا أن يقيموا هناك سوقًا تُباع فيها كل أنواع الأباطيل في كل أيام السنة.

وفي هذه السوق تُعرَض كل البضائع من عقاراتٍ وأراضٍ ومتاجر، ومن كرامات وألقاب ومراكز عالمية، ثم الأقطار والممالك، وهناك الشهوات والملذات والمسرات المختلفة، سراري وزوجات وأزواج وأطفال، وعبيد، أجساد ونفوس الناس، والفضة والذهب والحجارة الكريمة. وتوجد في السوق بصفة دائمة كل أنواع الحيل والمكر والخداع والدهاء، والملاهي، وشتى ألعاب القمار. وهناك يوجد الحمقى والكذبة، والمنافقون، والغشاشون وكل من على شاكلتهم".
يكتظ الطريق الرحب بجميع أصناف الإلهاء، الذي يهدف إلى إعاقة البشر عن الانشغال بما يشكِّل أهميةً حقيقيةً؛ فهو يعرِض مغرياتٍ تُنشئ الشهوات والأطماعَ في قلوب الجسديين، وتزيدها، بينما في الوقت نفسه تُنقِص من قدرتهم على الاكتفاء. فهو يقتنص البشر بانحرافات كبرى من أسوأ الأنواع، بل وبأمور صالحة تصير أوثانًا مميتة حين تعلو فوق الله. كلما ازدادت مدة سَير البشر في هذه الطريق، ازداد ابتعادهم عن الله في تجوالهم، وازدادوا بُطلًا، وصارت حياتهم أكثر جُدبًا وخلوًّا من الثمر.

حين يرى البشرُ الأشياءَ بصورة صحيحة، يُدركون أن غاية الإنسان الرئيسية هي أن يمجِّد الله ويستمتع به إلى الأبد، كما نقرأ في السؤال الأول من دليل أسئلة وأجوبة وستمنستر الموجز. لكن حين يحوِّل البشرُ قلوبَهم عن هذا الغرض، يفقدون الكرامة والمنزلة المعيَّنة لهم من الله. فقد خُلقوا ليعرفوا الله، وليستكشفوا العجائب اللا نهائية لشخصه وأعماله، لكنهم قد اختاروا التمرُّغ مع الخنازير والعبث بالأمور التافهة والباطلة؛ فقد اختاروا دوَّامة الطريق الرحب المنزلقة إلى الأسفل، التي يصفها الرسول بولس في الأصحاح الأول من رسالة رومية كالتالي: "لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ" (عدد 21-23).
نحن نعيش في مجتمعٍ من أناس نَهِمين تجاه كل ما هو جسديّ وباطل. يوصَف هؤلاء في الكتاب المقدس بأنهم "الَّذِينَ إِلهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ" (فيلبي 3: 19). فقد قايض هؤلاء ما هو أبدي بما هو وقتي، والسماء بالأرض، والله بالذات. يسلك هؤلاء الطريقَ الرحب، ويَزِنُونَ فِضَّةً لِغَيْرِ خُبْزٍ، وتعبهم وأجرتهم لغير شبع.

تسير الكتلةُ الضخمةُ من البشر، بما في ذلك كثيرون ممَّن يعلنون انتماءَهم للمسيح، في الطريق الرحب المؤدي إلى الهلاك. ومما يزيد من حجم المشكلة أن عددًا قليلًا من الكنائس تبوِّق منبِّهةً أو محذِّرةً الأشرار من هلاكهم الوشيك. ولا يتوقف الأمر عند عدم شجب طريق إشباع الذات الرحب – بل في حقيقة الأمر يتم الدفاع عن هذا الطريق والترويج له، بل ويُستخدم كوسيلة جذب للجماهير الغفيرة من الجسديين إلى خدمة يوم الأحد. صارت الكثير من الكنائس لا تزيد عن كونها سوق أباطيل، وصار كارزوها مجرد باعة جائلين يروِّجون لبضائع رخيصة. فإنهم يستخدمون العظات القصيرة كفؤوس ومجارف، مغيرين بها اتجاه الطريق الرحب حتى يتسنَّى للجماهير الجسدانية الكثيرة التي ترتاد كنائسهم التسلُّلُ إلى السماء بالسهولة نفسها التي يدخُلها بها الأتقياء الذين يسلكون الطريق الضيق. فإن خلاصهم هو خلاص بلا صليب، أو بلايا، أو اضطهادات، أو إنكار للذات. فهم يقدِّمون ديانةَ تحقيق الذات وتعزيزها؛ ديانة شبيهة بمشروع تجاري مع الله فيها يستطيع المرء أن يحتفظ بالثروة، والرفاهية، والبذخ، وسهولة الحياة طالما يُعشِّر من كل هذا. تَجري هذه السياحة في ممرٍّ رحب وفسيح حيث يسير المفديون المزعومون متأبطين ذراع العالم، وحيث تتحول نعمة الله إلى الدعارة، وتُرفض سيادة يسوع المسيح. هذه الأشياء ينبغي ألا توجد بيننا! ليت الله يهبنا مرة ثانية كارزين ورعاة تكون شريعة الحق في أفواههم، ولا إثم على شفاههم، يسلكون مع الله في السلام، ويُرجِعون كثيرين عن الإثم. دعونا نقف عند الأبواب، ونصرخ في آذان الجميع: "الْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ" (1 يوحنا 2: 17).

رابعًا، الطريق الرحب هو طريق أقل مقاومة على الإطلاق. كما يعبِّر المثل، هو طريق "السباحة مع التيار". بادئ ذي بدء، لا تصدُر مقاومة من الجسد في الطريق الرحب، إذ لا يلزمنا أن نجاهد لدخوله. وكما ذكرنا قبلًا، إننا نجد أنفسنا هناك بالطبيعة، فقد وُلدنا بالخطية، زائغين من الرحم، وضالين من البطن. ولهذا، ينجذب جسدنا الساقط إلى كلِّ متمرد آخر يصادفه في الطريق الرحب، ويوافق من قلبه على كل توجُّه وفعل خاطئ. علينا أن نتذكر أن الجسد الساقط هو في عداوة مع الله، ولا يستطيع أن يرضيه. لكنه يحب العالم، ويُنصت طواعية لصوته. لا يحتاج الجسد إلى تحفيز كي يطلق العنان لشهوته، وكي يسلك الطريق الرحب أينما يقوده. ومن ثم، لن يجد من يطلبون دخول الطريق في جسدهم عدوًّا لهم، بل فقط حليفًا مخادعًا.

هكذا أيضًا، لا مقاومة من العالم في الطريق الرحب. يقول ويليام هندركسن: "تقول الإشارات المعلَّقة طوال الطريق الرحب: ‘مرحبًا بكم جميعًا وبجميع أحبائكم؛ كلما ازددتم عددًا صار هذا أفضل. ارتحلوا كما تشاؤون، وبالسرعة التي تريدونها. لا توجد قيود". من يسلكون الطريق الرحب سائرون في طريق العالم. هذا هو طريق البشرية، طريق التآخي، والشمولية، والسماحة، وقبول الآخر. هو احتفالٌ لا ينتهي فيه يطالَب بالتملُّق المتبادَل، وفيه يُطرَح الحق من النافذة، ولا يُسمَح لأحد بأن يقول إن الإمبراطور عارٍ،* أو إن الموكب بكامله متَّجِه صوب الهلاك.

يُعَلِّمنا الكتابُ المقدس بأنَّ العالم يحبُّ خاصتَه، ويُصغِي لهم. حين جاء ابنُ الله إلى عالمٍ خَلَقَه، وإلى شعبٍ اختاره، لم يَقبَلوه. وحين حلَّ وقت اتخاذ قرار حاسم، اختار العالم واحدًا منه، طالبين أن يُطلَق لهم لصٌّ وقاتلٌ شهير، وأن يُصلب القدوس والبار، رئيس الحياة. يُحب العالم جميع من لا يريدون أن يكونوا أحباء الله، لكن عداوته مدَّخرةٌ فقط لمن يجترئون على كسر الهدنة معه، والتحول عن طريقه، والانضمام إلى صفوف الله.

علاوةً على ذلك، لا مقاومة من إبليس في الطريق الرحب. بل في حقيقة الأمر، هذا الطريق هو مشروعه الخاص الذي يدار بحسب مشيئته. وبحسب الرسول بولس، يُعد السير في الطريق الرحب بمثابة السلوك "حَسَبَ دَهْرِ هذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ" (أفسس 2: 2). كَتَبَ هندركسن: "هذا ‘الطريق’ [الرحب] قد بناه إبليس. ويرتحل عليه أتباعه". يتعرَّض قديس الله السائر باستمرار في الطريق الضيق إلى الغواية، والتجارب، بل وإلى التصدي والإعاقة في سياحته. يقاومه إبليس في كل وقت، ويسعى إلى إبطال كل محاولاته للتقدُّم في الإيمان. ولولا حماية المسيح، لاستطاع إبليس أن يغربله كالحنطة ويسحقه، إلى أن يلعن الله ويجدِّف عليه. أما مَن يسلكون الطريق الرحب، فإن إبليس صديقٌ لهم، على الأقل إلى حين، إذ تقطر شفتاه عسلًا، وحنكه أنعم من الزيت، لكِنَّ عَاقِبَتَهَ مُرَّةٌ كَالأَفْسَنْتِينِ، حَادَّةٌ كَسَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ. فهو يغوي البشر بكثرة فنونه، وبتملُّق شفتيه يغويهم ويطوِّحهم. لكن قدميه تنحدران إلى الموت، وخطواته تتمسك بالهاوية. ومن يتبعونه في الطريق الرحب هم كَثَوْرٍ يَذْهَبُ إِلَى الذَّبْحِ، أَوْ كَالْغَبِيِّ إِلَى قَيْدِ الْقِصَاصِ، أو كَطَيْرٍ يُسْرِعُ إِلَى الْفَخِّ. وهم لا يَعلَمون أن خيارهم سيكلِّفهم حياتهم، إذ أن بيت إبليس فَخٌّ يَقُودُ إلَى المَوْتِ، وَسُبُلُه تَقُودُ إلَى الجَحِيمِ. كُلُّ مَنْ يَذْهَبُ إلَيْهَ لَا يَعُودُ. وَلَا يَجِدُ طَرِيقَ الحَيَاةِ مِنْ جَدِيدٍ.

أخيرًا، الطريق الرحب هو طريق الظلمة المتزايدة. نتعلَّم من سفر الأمثال أن "سَبِيل الصِّدِّيقِينَ فَكَنُورٍ مُشْرِق، يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إِلَى النَّهَارِ الْكَامِلِ" (4: 18) لكن خلافًا لذلك، "طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَكَالظَّلاَمِ. لاَ يَعْلَمُونَ مَا يَعْثُرُونَ بِهِ" (4: 19). "فهم مُظْلِمُو الْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ". ومع مرور الوقت، توسَم ضمائرُهم كما بختمٍ من حديد، وتُنتزَع منهم بوصلتهم الأدبية، فيُسلَّمون إلى شهوات قلوبهم، وإلى النجاسة، وأهواء الهوان. تقع دينونةٌ رهيبةٌ على البشر وعلى الأمم بتواتر يفوق إدراكنا أو يفوق شجاعتنا للإقرار به. ومع أنَّه لا يَسَعنا أن نيأس البتة من قدرة نعمة الله على أن تخلِّص حتى أسوأ الخطاة وأشرهم، إلا أننا لا بد أن نحذِّر كل إنسان يسلك الطريق الرحب، بأن كلَّ خطوة تقرِّبه أكثر إلى الرفض، وإلى أن يُسلَّم إلى موضع لا رجعة منه. ليس هذا مكانًا حيث سيرغب في أن يخلُص لكنه لن يستطيع، بل حيث لن يعود يكترث بهذا الخلاص. عند هذه المرحلة، سيكون قلبه قد تحوَّل إلى قشرة جافة، ونفسه قد صارت شديدة الضحالة حتى أن لهوَ الطريق الرحب سيكون هو كل ما يحتاجه كي يملأها.

لقراءة المقال باللغة الإنجليزية:
https://heartcrymissionary.com/theological-forum/the-narrow-way-and-the-broad-way/
مشاركة المقالة
عن الكاتب
پول واشر

خدم پول واشر كمرسل في پيرو مدّة عشر سنوات، والتي أسَّس خلالها جمعية هارت كراي الإرسالية لدعم زارعي الكنائس في الپيرو. يخدم پول حاليًّا كأحد العاملين في جمعية هارت كراي لدى پول وزوجته كارو ثلاثة أبناء: إيان، وإيڤان، وروان.

المزيد من المقالات